مرت بي ثلاثة مواقف في ثلاثة أماكن مختلفة جعلتني أقف مشدوها ومتعجبا إلى درجة الألم، وكلها تتعلق بالهوية، وهذه المواقف وما سمعت فيها أعطاني مؤشرا راسخا على ضعف الوازع أو الدافع لدى الكثير (إن شاء الله تكون كلمة الكثير غير دقيقة) من شبابنا وطلابنا باتجاه الانتماء الحضاري و أولويات الانتماء، وقطعا فان لفيوض الاتصالات الحديثة التي ما فتأت أتحدث عنها مؤخرا، كان لها ولفقدان متابعة البيت والمدرسة والتنظيم المشغول بمعاركة الحزبية عن أعضائه وهموم للوطن، لا شك ان لهذه الجهات الثلاثة دور في ضعف الهوية او انسحابها الى الخلف والانبهار بالآخر، وأحيانا انسحاقها أمام الغالب أو القوي أو المسيطر.
في دبي التقيت بطالب فلسطيني يدرس في أمريكا وهو للحقيقة دمث الخلق ومتدين ولكنه يشكو هويته، فهو لا يهتم ان يكون فلسطينيا ، ويتبرأ من أن يكون عربيا؟! ويفتخر أن يكون مسلما فقط ، فان قلت له ان فهم القرآن المجيد يستلزم اللغة العربية، قال لك يوجد منه نسخ بالانجليزية؟! وان قلت له أن العرب هم حملة الرسالة الخالدة قال بل هم جاهليون همج شذبهم وكافة الشعوب القرآن فقط ؟!
وان أجبته أن العرب يشتهرون بمكارم الأخلاق لذلك قال الرسول ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) مط شفتيه وأدار وجهه، وان قلت له ان الفرنسي وهو مسيحي أو الألماني لا ينسحق أمام الانجليزي بدعوى اننا كلنا مسيحيون بل يفتخر بانه من أحفاد فولتير وموليير وأندادهم وأسلافهم جميعا وكذلك الألماني، ويفتخر بالأشعار والروايات والإسهامات الحضارية الغنية لشعبه قال لك وين إسهامات العرب لنفتخر فيها؟!
إن سقوط الوعي بالهوية العربية وما يستبع ذلك من إهمال اللغة العربية ( واللغة طريفة تفكير وثقافة) ليس شيئا هينا فالإسلام والعربية ارتبطا معا رابطا محكما لان القرآن جاء بلسان عربي مبين ليس للعرب فقط وانما للعالم بحيث أن اللسان العربي هو وعاء الفكر والثقافة والحضارة والتقدم المنشود.
اترك الطالب الجامعي الذي يكاد يطلق عروبته وفلسطينيته لصالح ما يعتقد انه يمثله من هوية أمريكية إسلامية لنلتقي في رام الله مع طالب من طلاب (جفعات حبيبة) حيث كانت تقوم احدى المؤسسات بإرسال الطلاب لهذه المستوطنة في الداخل الفلسطيني وتطور الأمر لإرسالهم للمستوطنات في الضفة الغربية العام الفائت وكأن لا رقيب ولا حسيب والأدهى والأمر أنهم من طلاب قطاع غزة بحيث تستغل الحاجة والفقر وعوز الناس لاستقطابهم لمثل هذه الأماكن التي يتم فيها إعادة تركيب أدمغتهم بحيث ينحسر البعد الوطني الفلسطيني ويتدفق البعد الإنساني المسيس فتصبح المشاعر المتبادلة مع المحتلين المستوطنين ذات ( بعد إنساني) كما يحدثك هذا الطالب. أما الحالة الثالثة فلقد التقيت أثناء ندوة لي منذ أيام في بيت لحم مع ثلاثة طلاب طلبوا مني مراجع لبحث ظننت في البداية انه فكري أو سياسي أو إداري أو تنظيمي ما يمثل خلفيتي في ذلك ولكن الطامة الكبرى هي انه بحث حول شرعية ما أسموهم (المثليين) فقلت لهم تقصدون الشواذ؟! قالوا هذا حكم مسبق ولا يجوز! فصعقت، انه في مجتمعنا العربي الفلسطيني المحافظ مسلما كان أو مسيحيا يتم النظر للفاحشة وكأنها وجهة نظر تحتاج بحثا ليقرر مشروعيتها؟! قلت لهم ان ما يعارض النص الصريح في القران فهو خطأ وخطيئة وهذا ما لا يجب التهاون به، فهوية الفلسطيني المسلم يجب ان تكون كذلك وبما يتميز به من أخلاق محافظة وكذلك المسيحي الفلسطيني ، حاول الطلاب أن القول ان البحث العلمي يأخذ بالنتائج لا لأفكار المستبقه فقلت لهم هل يقبل أي منكم ان يعمل دراسة تجيز بنتيجتها أن تخرج أمه عارية كاسية كالغربيات؟! قالوا لا، قلت هذا حكم مسبق كما تقولون.... فحاروا في الإجابة.. فقلت ان من لا يمتلك خلفية فكرية ثقافية عروبية إسلامية وطنية تمثل قاعدة الحكم على الأمور عنده فانه قطعا سيفقد الرؤية والخلق القويم ويصبح كالإناء الفارغ يستطيع أي كان ان يسكب فيه ما يشاء. إن الانبهار بالغرب وخاصة لدينا في فلسطين وفي ظل منظمات (التغريب) غير الحكومية والانسحاق تحت إقدام الهويات (العالمية) عبر التركيز على الطلاب سيخلق جيلين منفصلين الأول مائع بلا طعم والثاني متشدد ينخرط في أحزاب التطرف الديني ونفقد تدريجيا هويتنا الحضارية وبعدنا الديني وامتدادنا العربي وثقافتنا العربية بل وخصوصيتنا الوطنية ما يستدعي قرع ناقوس الخطر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها