يمكن اختصار الانقسام بحكاية الشاب تامر السلطان الذي قضى في الغربة وهو يبحث عن حياة أفضل. تامر الصيدلاني الذي قرَّر ترك كلِّ شيء من أجل حياة تليق بالمستقبل الذي يتطلَّع إليه، بعد أن أمضي أيامًا عصيبة في التعذيب حين خرج هو ورفاقه الشبان يصرخون بألم "بدنا نعيش". لم يكن في الأمر مستحيل، ولا فيه بحث عن النجوم، بل كان ثمّة تطلُّع بسيط إلى حياة أفضل حتى تصبح الحياة ممكنة على الأقل. لكنها لم تعد كذلك على ما يبدو. وحين لا تعود كذلك يصبح كل شيء متاحًا إلّا الوطن. وقتها تصبح الهجرة مغرية والبحث عن إقامة ولو غير مشروعة في بلدان الآخرين آخر ما يتبقى في الجيب. هكذا يصير الوطن عبئًا ويصير تركه حلمًا وإن كان على مضض أو تحت سياط التعذيب التي تظل تكوى الروح، حتى وإن ذهبت آثارها عن الجسم. وهكذا يتم ترك كل شيء من أجل التخلُّص من آلام المعاش بعضًا من الوقت، في سبيل وقت يتم شراؤه بعذابات الغربة. وإذا كانت "خيمة عن خيمة بتفرق" بكلمات غسان كنفاني، فإنَّ "عذاب عن عذاب يفرق" أيضًا، لأنَّ عذاب ذوي القربى أشدُّ وأكثر حدّة ويقطع نصال الروح ويمزق بهجة أي لحظة مسروقة من الزمن. وهكذا فإنَّ الغربة تصبح أكثر إغراءً من الوطن ويظلُّ الوطن حزينًا يقع في زاوية مظلمة من زوايا النفس يبكي حاله أو يرثي حال صاحبه.
هكذا رحل الشاب المكافح المناضل والصديق العزيز تامر السلطان وهو يتطلَّع إلى وطنه بحزن؛ لأنّه كان مضطرًا إلى تركه من أجل البحث عن "حياة مؤقتة" في مكان آخر، ريثما يصبح الوطن متاحًا وريثما يكون من السهل وإن كان بألم العودة للوطن مبتهجين. لكنّه عاد في تابوت ممزّقًا قلوب كلَّ محبيه. رحل تامر وهو يرفع علامة الاستفهام: هل هذا الوطن الذي كنا نبحث عنه؟ هل هذه جنتنا المفقودة التي نقاتل ونموت من أجل استردادها؟ لا أحد يمكن له أن ينظر في عيني تامر الخضراوين ليقول له إنه كان مخطئًا؛ إذ إن رحيله يكفي عن مليون إجابة، وموته المفجع يطلق ألف رصاصة في عيوننا نحن وفي عيون كل من يتمسّك بهذا الانقسام البغيض. رحل تامر بعد أن أدرك لوهلة أن ضريبة الوطن لا علاقة لها بما ندفعه نحن، وهو مثل كل رفاق دربه، دفع الكثير الكثير وكان مستعدًا أن يدفع أكثر وأكثر مما يصر عليه جابي الضرائب الذي لا علاقة لما يقوم به بالوطن. رحيل مفجع لكن الفقد يوجع الأحياء، وإن كان يؤلم من رحلوا أنهم تركوا الأحبة خلفهم في كهوف الحياة المظلمة لأن من دفع عمره فداءً لحياة الآخرين وحده يعرف قيمة الحياة. رحل تامر كما لم يتوقع أحد، ولم يكن يخطر ببالنا أنه سيمضي غريبًا مثل كل أصحاب الفكر النبيل وهم يناضلون من أجل حياة أفضل للآخرين.
رحيل مفجع لكنّه صفعة قاسية للواقع الذي نعيش. كلُّ الفدائيين الذين يمضون في دروب الشهادة يفعلون ذلك طواعية لرغبتهم في أن يحيا من بقوا على الحياة حياة أفضل. صفعة قاسية للواقع الذي يصير حلم الشبان فيه الهجرة وترك أوطانهم، للواقع الذي يتكدس فيه الخريجون بلا عمل وبلا مستقبل يعملون فيه، للواقع الذي يعيش فيه الأغلبية حياة قاسية فيما تنعم القلة بحياة الرغد والرفاه، للواقع الذي لا يتطور فيه واقع التعليم ولا مستوى الخدمات بأي حال، للواقع الذي يتلوث فيه البحر محج الناس الوحيد في الصيف ومصدر رزق البعض؛ حين تضخ المجاري فيه وتضخ فيه دماء الأضاحي في أكثر المشاهد بشاعة، للواقع الذي يناضل فيه الشبان والفتيان من أجل حياة أفضل لا تأتي، للواقع الذي تصبح فيه الحياة معلقة على آمال لا تتحقق، لكنها تسعد البعض وتسوّد في وجه السواد الأعظم، للعتمة التي يعيشها الأطفال الذين لا يعرف أغلبهم أن الكهرباء مثلًا خارج غزة فعلًا لا تقطع، للواقع الذي لا يستوي فيه الناس ولا يتساوون حتى في تحمل مقدار الألم، للواقع الذي يجعل الاستمرار مستحيلًا، للواقع الذي يجعل المجازفة بالموت خيارًا أفضل من الانتظار. رحيل مفجع يا تامر لكنه إدانة لنا كلنا بأننا لم نستطع أن نجعل من حياتنا شيئًا مقدسًا نحافظ عليه أو نسعى للتمسك به.
رحيل يدين مستقبلنا أيضًا، المستقبل الذي لا نستطيع تحمل تكاليف البحث عنه. نظل واقفين متسمرين في مكاننا كأننا نخجل من الاعتراف بأننا أقل من أن نفر من هذا العجز. أما تامر فمثلنا لم يعد لديه ما يقوله أو يفعله، لكنه قرر أن يبادر، أن يحاول أن يجعل الوطن الذي يحمله فانوسًا يضيء غابات الغربة، ويا للوطن حين يقتلنا حبه ونحن نبحث عنه. مثل سيرة كل الراحلين من قبله الذين قضوا وهم يبحثون عن حياة أفضل مضى تامر تاركًا حسرة كبيرة في داخلنا لأننا أكثر عجزًا من الواقع الذي نعيش. وكأن صوت الشاعر يعيد ترديد "نعيب زماننا والعيب فينا" ولكن بفجاجة الشامت الذي يعرف أننا نعرف ذلك وننكره.
يا للوطن حين تصبح الغربة أخف منه. على ذمة غسان في رائعته "الوطن ألا يحدث ذلك كله"، ألا يضطر تامر لترك فلسطين من حدود إلى حدود بعد أن آلمه عذاب ذوي القربي ويموت هناك في أدغال المنافي وحيدًا، الوطن أن تصبح الغربة على آلامها أكثر إغواءً من الوطن على ما فيه من نعم. الوطن ألا تظل حياتنا معلقة على شماعة الانتظار، وألا يظل الانقسام قدرنا وألا يوضع الشبان في أقبية التحقيق لأنهم "بدهم يعيشوا"، الوطن أكبر من تفاصيلنا غير الوطنية.