ماكنة الوقت تعمل لصالح الفلسطينيين في هذا الصراع المفتوح بينهم وبين الإسرائيليين، ربما أن أبرز الصيحات التي عبرت عن ممكنات القوة الفلسطينية تلك التي أطلقها خبير الديمغرافيا الإسرائيلي قبل عقد ونصف في مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي الأول وهو يراقب النمو السكاني الفلسطيني في داخل حدود دولة إسرائيل الذي ينكسر كل عام لصالحهم، بالرغم من أن التزايد السكاني اليهودي يعتمد ليس فقط على الولادة الطبيعية بل وكذلك على الهجرة التي استقرت في العقد الأخير في حدود ستة عشر ألف يهودي، قال أرنون سوفير وهو يتنبأ بتشاؤم "الساعة الرملية الديمغرافية تسير بسرعة الفهد وإجراءات الدولة تسير بسرعة السلحفاة".
ربما أن البروفسور سوفير والذي يتندر عليه الكتاب الإسرائيليون لأنه مهووس بالأعداد والأرقام والنسب السكانية ولأن اسمه "سوفير" وتعني بالعربية "العداد" حيث يقول الإسرائيليون أن سوفير يصحو كل صباح ويبدأ بتعداد العرب، لكنه ليس وحده، فقد بدأت إسرائيل لعبة الأرقام والنسب مبكراً منذ خمسينات القرن الماضي، سواء بتشجيع نسل اليهوديات وكذلك الهجرة ووضعت ميزانيات وبرامج في دولة كان عدد اليهود فيها عند التأسيس 806 آلاف، بينما كان عدد الفلسطينيين فيها 156 ألفاً وساد اعتقاد المؤسسين أنه مع هجرة اليهود سيذوب الفلسطينيون في بحر الأغلبية اليهودية.
منذ بداية التسعينات وعملية التسوية كانت الأرقام تتطاير في إسرائيل، كان أحد مرتكزات دفاع اليسار الإسرائيلي حينها ممثلا بشمعون بيرس أن حزب العمل ذهب بهذا الاتجاه مبكراً لأن هناك ضرورة للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذه كانت ملخص دراسة نشرت منتصف التسعينات في مجلة دراسات فلسطينية، وقالت حينها "إذا لم يتم الفصل سيتساوى عدد العرب واليهود بين البحر والنهر عام 2014".
وبدءاً من عام 2014 سيبدأ الميزان بالميل لصالح الفلسطينيين، وهذا سيشكل خطراً كبيراً على إسرائيل من حيث الظهور كدولة أبرتها يد عنصري، وقد تشكل تيار فكري في الساحة السياسية في إسرائيل قد بدأ بالتنظير للفصل عن الفلسطينيين، حتى أن قادة التيار اصطحبوا أرئيل شارون صاحب نظريات التوسع والضم والأب الروحي للمستوطنات بجولة في طائرة هيلوكبتر على الحدود بين الضفة وإسرائيل ليرى كيف تزحف المناطق العربية، وكان ذلك في بداية الانتفاضة الثانية.
من هنا ولدت نظرية الفصل أو الانسحاب من طرف واحد وذلك لإدراك إسرائيل أن الفلسطينيين لن يقبلوا بالتنازل عما هو أقل من حدود 67 وأن إسرائيل هي التي تدفع ثمن الوقت الذي لا يعمل لصالحها، ومن هنا أيضا كان الجدار الذي تقيمه إسرائيل بعد أن كانت تقول كل الضفة لها، وخاصة أن أحداث التوراة كانت في الضفة وليس في الشريط الساحلي.
وعندما فشلت قمة كامب ديفيد كانت خطط الفصل تخرج من الأدراج سواء الجدار في الضفة الغربية أو بالانسحاب من قطاع غزة.
ومن هنا أيضا يجب أن نفهم أن أحد أهم أسباب الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من القطاع هو التخلص من الكتلة السكانية الديمغرافية التي "تسير بسرعة الفهد" بعيدا عن اعتبارات أخرى قد تكون لعبت دوراً، ولكن الهروب من السيطرة على مليون ونصف مواطن فلسطيني سيمكن إسرائيل من أن تستمر بالحفاظ على أغلبية يهودية في الضفة وإسرائيل، وبالفعل اكتمل الهدف الإسرائيلي بما قامت به حركة حماس من سيطرة مسلحة فصلت غزة عن باقي الوطن ليكتب صحافي إسرائيلي أن "غزة خرجت من إسرائيل" وهذا عمل على تأجيل ترجيح التوازن لصالح الفلسطينيين لعقود، موفراً لإسرائيل فسحة طويلة من الزمن تخطط بهدوء وتضغط وتفاوض وتقايض وتبتز وتهدد.
نحن في بداية عام 2014 التي تقف عند أرقام مثيرة، فقد بلغ عدد اليهود في إسرائيل 6.066 مليون يشكلون 75.3 من سكان الدولة، فيما بلغ عدد الفلسطينيين فيها 1.760 مليون بما نسبته 20.7 % وإذا ما أضفناهم لسكان الضفة (2.8 مليون) وفقا لتقرير الجهاز المركزي للإحصاء وكذلك سكان قطاع غزة (1.853) وفقا لإعلان عاهد حمادة الوكيل المساعد في الداخلية بحكومة غزة يكون لدينا 6.323 مليون فلسطيني في فلسطين التاريخية أي بزيادة عن اليهود بـ 257 ألف فلسطيني.
أمام هذه المعطيات ماذا لو قرر الفلسطينيون عدم توقيع اتفاق؟ فهذه الأرقام تعطيهم من القوة ما يمكنهم من تحمل الضغوط ورفض أية صفقة لا تقدم لهم دولة مستقلة على حدود 67 خالية من الوجود الإسرائيلي وعاصمتها القدس، ولماذا لا يلعب الفلسطينيون حينها اللعبة الإسرائيلية ذاتها؟ لعبة الأرقام والنسب التي تهرب منها إسرائيل، بالتهديد بحل السلطة في الضفة وغزة وتسليم المفاتيح لإسرائيل ولتعيد سيطرتها كأقلية على الأغلبية الفلسطينية، وليبدأ الفلسطينيون نضالا مختلفا مع هذه الدولة التي تضع أقدامها في الأرض وترفض الحد الأدنى من حقوقهم على خمس فلسطين التاريخية، فهذه هي مفاوضات التجربة الأخيرة في رحلة تقترب من ربع قرن منذ مؤتمر مدريد وإسرائيل تماطل وتكذب وتناور وتخادع، إذن آن الأوان لتغيير هذا الواقع الذي أراح إسرائيل من عبء الحكم المدني والخدمات، وأصبح العالم يدفع لتمويل السيطرة الإسرائيلية واستمرار الاحتلال ودخلنا نحن الفلسطينيين في لعبة أو لعنة الحكم قبل التحرير.
إذا لم يقدم كيري في صفقته المزمعة ما يرضي الفلسطينيين فهم ليسوا مضطرين للتوقيع، فالزمن لا يعمل ضدهم إذا ما أجادوا استخدام ممكنات قوتهم، وبإمكانهم رفع البطاقة الحمراء في وجه إسرائيل والعالم ولتعود الأقلية اليهودية للسيطرة على الأغلبية العربية ولتنقلب الطاولة على رأس إسرائيل والعالم، هذه أبرز ورقة ممكن أن يلعب بها الفلسطينيون حالياً بعد أن خذلنا العالم في المفاوضات ولم نحقق أهدافنا بالكفاح المسلح، فلنذهب لبرنامج ثالث ينبغي كسر الثنائية العاجزة "مفاوضات وقتال" ولنبدأ الصراع المدني الذي نملك إمكانيات نجاحه، ولكن هذا يتطلب مسألتين قبل رفع البطاقة الحمراء: الأولى، سرعة إعادة غزة لباقي الوطن، فلا ينبغي أن تبقى خارج المعادلة الإسرائيلية، واستمرار فصلها وغرقها بتفاصيل الحياة يجرد الفلسطينيين من ممكنات قوتهم ويقدم لإسرائيل خدمة كبيرة سواء بتخفيف العبء أو في لعبة الأرقام والنسب.
الثانية: وضع برنامج قادر على مقارعة العنصرية اليهودية ليضع إسرائيل أمام خياراتها السوداء؛ إما دولة كل مواطنيها على كل فلسطين التاريخية وإما الاستمرار كدولة أبرتها يد عنصري تحكم فيها أقلية يهودية أغلبية عربية، وهذا يتطلب مجهودات كبيرة وتغيير في الطواقم الدبلوماسية لمقارعة إسرائيل في كل الميادين.
هذه الخيارات السوداء هي مركز قوة الفلسطينيين، فلا ينبغي الخوف من عدم توقيع اتفاق، ولكن الخوف وارد في حالتين إذا ما وقعوا اتفاقاً منقوصاً تحت الضغط، أو إذا لم يوقع اتفاق واستمرت السلطة في عملها وبقيت غزة خارج الحسبة، هنا علينا أن ندرك أننا عجزنا عن إدارة معركتنا أمام خصم مدجج بمفكرين ومراكز دراسات وليس فقط بالسلاح.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها