في حضرة رجل علماني، يقود فرنسا التي أرست في الفكر السياسي عناصر دولة المواطنة ودساتيرها؛ ألقى نتنياهو كلمته الظلامية، التي اتسمت بنبرة التشكي المفتعل وبالنصب السياسي الذي يلامس النصب الجنائي. ولم يفترض رئيس حكومة إسرائيل، أن ضيفه في "الكنيست" سوف يتقزز من منطق يدعو الى الاستحواذ على شهادة تخرّج، ممهورة بتوقيع فلسطين، تعترف لإسرائيل، بأنها عنصرية بامتياز، وبأنها دولة دينية يهودية، فيها مواطنون مسلمون ومسيحيون غير متساوي الحقوق، ولا يحملون في عقيدتهم صفة دولتهم! تقمص نتنياهو لبوس الرجل الذي اعيته الحيلة سعياً الى السلام. دعا الرئيس محمود عباس، الى المثول أمام "الكنيست" لكي يعترف بـ "صلة اليهود بأرض فلسطين" وبـ "يهودية الدولة" تالياً. وبالطبع لم يتوقع المتطرف، أن يخامر الرئيس الفرنسي أي استفهام عن صلة أخرى للمسيحية، بفلسطين التي ولد فيها "يسوع"!

 

إن النصب السياسي في إسرائيل، لا يُلاحق كالنصب الجنائي. ففي يوم حضور فرانسوا هولاند، اقتحمت الشرطة الإسرائيلية مقر الرئاسة الروحية، واعتقلت الحاخام الأكبر السابق يونا متسجر، على خلفية اتهامات بتلقي رُشى وتبيض أموال وتلقي الخوات والاحتيال وشهادة الزور . لكن الواقع، هو أن النصب السياسي جزء متجذر في عقيدة الصهيوينة، ولا يطاله قانون العقوبات في إسرائيل!

 

وقف نتنياهو يرثي لحال إسرائيل بالنسبة لما يراه خطراً نووياً إيرانياً. في الوقت نفسه يتبجح قائلاً بأن أحداً في هذه الدنيا، لا يستطيع إلحاق الهزيمة بهذه الدولة. يتحدث عن دعاوى لإبادة إسرائيل، وكأن أي طرف ذي علاقة بعملية التسوية، يريد لإسرائيل أن تُباد. هو يطرح هذا الافتراض الهلامي، لكي يهرب من متطلبات محددة تتعلق بعملية التسوية التي تعطلت بسبب عربدة إسرائيل، ونكرانها لحقوق الآخرين، ونزوعها الى إبادة وجودهم. إنه كلام ظلامي فاقد للمعنى، يمضغه في حضرة العلماني، متطرف يترأس حكومة عدميّة تذهب بالمنطقة الى شفير هاوية!

 

كأن مشكلة التسوية تكمن في امتناع الفلسطيني عن التزيد في توصيف الـ 88% من أرض وطنه، بعد أن سلّم بوضعية قيام دولة إسرائيل عليها. فربما للمرة الأولى في التاريخ، يسعى المنتصر بالمعيار الاستراتيجي المضاد للحقائق التاريخية، الى الاستحواذ على شهادة تخرّج ممهورة بتوقيع المغلوب على أمره، تُقر له بدرجة امتياز عنصري، وبأحقيته في دولة دينية. فنتنياهو يتوخي إقراراً كهذا، في حضرة رئيس فرنسا العلمانية!

 

الأدهى من ذلك والأكثر مرارة ومدعاة للسخرية في آن؛ أن المؤدى العام، لطرح نتنياهو، يرسم توجهاً استثنائياً غير مسبوق في تاريخ الصراعات. فللمرة الأولى يرفض الغالب والمستحوذ على دولة ملفقة، ويمكث على أرض الآخرين دون أن يتهدده شيء؛ أن يتقبل من أعدائه، الاعتراف بالهزيمة التاريخية والاستراتيجية. فالمتطرفون كالعادة، يرون كل صراعاتهم وحتى خلافاتهم ذات طابع تناحري وهي لا تنتهي إلا بزوال أحد الضدين. لا يكتفون من الطرف الآخر الإقرار بضياع معظم حقه. هم يريدونه عبداً في زمن تحرر العبيد، وشتّان بين المغلوب والعبد. الأول يمكن أن يستجمع إرادته ولو بعد حين، لكي يعاود الكرّة طلباً لبعض حقه، أما العبد فإن أمره كما يظنون أبعد عن فكرة استجماع الإرادة، وسيغرق في بؤس أبدي!

 

منطق نتنياهو فيه من التحايل، بقدر ما فيه من الجنون والمقامرة. والمتطرفون نصابون أينما كانوا. فها هي قمة هرم الرئاسة الروحية المتطرفة، لليهود الغربيين، تهوي الى قاع آسن، بتدبير القضاء الإسرائيلي نفسه. وليس ببعيد، يوم أن تهوي هذه السياسة الخرقاء الى قاع مماثل!