بقـلم/ صقر أبو فخر

في 19/10/2013 ألقى اسماعيل هنية، رئيس سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، خطبة لافتة تضمنت تلاثة بنود أساسية هي: التبرؤ من دعم الارهاب في سيناء، والدعوة إلى المصالحة الوطنية الفلسطينية، والتلويح بالعودة إلى أحضان إيران. وهذا الخطاب هو الخلاصة الحزينة والخاتمة المهيبة لمأزق حركة حماس الذي لا خلاص منه على ما يبدو ويتجلى هذا المأزق في أن اسماعيل هنية دعا في خطابه المذكور إلى الاحتشاد الوطني ضد المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية، فلم يحتشد أحد. ودعا إلى شد الرحال إلى المسجد الأقصى والرباط فيه، فلم يستجب له أحد. ونفى وجود أزمة مستعصية في قيادة حركة حماس، فلم يصدقه أحد.

جميع الفلسطينيين في مأزق. هذا أمر بدهي، لأن الفلسطينيين كلهم في مركب واحد. لكن العجب أن البعض لا يتورع عن حفر ثغرة في قاع المركب لخلاص نفسه، لأنه، لضيق رؤيته، لا يدرك أنه بعمله هذا يُغرق الجميع في اليم. وهذا ما تفعله حماس في سياستها الخارجية وفي ممارساتها الداخلية. وخطاب اسماعيل هنية يعكس تماماً هذا المأزق الصريح الذي ما عاد من الممكن إخفاؤه كما يخفي البعض نفاياته تحت سجادة بيته. فالإشارة إلى عودة حماس الى مظلة الشرعية الفلسطينية إنما هي خطوة تكتيكية للاستظلال بهذه الشرعية والاحتماء بها بعد الخيبة الكبرى في مصر، ومن غير المقبول تحويل أمر مبدئي فلسطيني إلى سلوك تكتيكي. إن حماية حماس من انعكاسات مراهناتها السياسية الخائبة عليها تكمن، أولاً وأخيراً، في التخلي عن سلطة الأمر الواقع في غزة، وفي العودة إلى كنف الشرعية الفلسطينية من باب المشاركة الشاملة، أي إعادة توحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية كلها في غزة ورام الله في نطاق واحد. فالدعوة الكلامية الى المصالحة الوطنية غير كافية على الاطلاق، ويجب أن تعقب هذه الدعوة خطوات عملية، ومثل هذا الأمر لم يتحقق البتة.

إن الخروج من المأزق الفلسطيني، على المستوى الداخلي، له خريطة واحدة تتضمن تسليم مقاليد السلطة القائمة في غزة إلى الحكومة المركزية في رام الله, والتخلي طوعاً وفوراً عن السلطة الانفرادية في غزة تخلياً تاماً ومن دون شروط إلى ما تقتضيه الترتيبات العملية، ثم الانخراط في مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية أكان ذلك من موقع المعارضة أو غيره، وكذلك الالتزام المبدئي بعدم تغليب الارتباط بحركة الاخوان المسلمين على الانتماء الوطني. وعلى حماس أن تبادر بنفسها إلى السير في هذه الخريطة لأن حركة فتح باتت غير مستعجلة على المصالحة بعد التملص الحمساوي المتمادي طوال السنوات السابقة، وصارت الأولوية لديها الآن هي مواجهة ما تفرضه المفاوضات مع اسرائيل من صراع مكشوف سياسياً وقانونياً ودبلوماسياً.

 

حساب الأرواح والخسائر

ظهرت حركة حماس بعد وصول محمد مرسي إلى الرئاسة في مصر وكأنها جزء من جماعة الاخوان المسلمين لا كمجموعة من الحركة الوطنية الفلسطينية. وكانت هذه الصورة السلبية تزيد من تآكل الحضور الحمساوي في صفوف الفلسطينيين. ومع أن الاخوان المسلمين انتهى أمرهم في مصر، وهم في طريقهم إلى الخروج من جنة السلطة في تونس، ويكاد حضورهم في ليبيا وسورية يتلاشى، فإن حركة حماس تأبى الاعتراف بأن رهاناتها على الإخوان المسلمين في مصر سقطت إلى غير رجعة مع سقوط محمد مرسي في 3/7/2013. فالإخوان المسلمون لن يعودوا إلى السلطة بتاتاً، ولن يعود محمد مرسي إلى الحكم قط. وتبين، بعد هذه الحوادث المتسارعة، أن الإخوان هم أكثر حركة سياسية تمتلك هذا المقدار من الجهل والغباء. وبسقوط الإخوان المسلمين في مصر يبدو ان الاسلام السياسي في العالم العربي قد بدأ الانحدار، وها هو يخلي مكانه للجماعات الارهابية المتطرفة على غرار ما يجري في سورية والعراق.

إن مشكلة "العقل السياسي" للاسلام السياسي، ومنها حركة حماس بالطبع، هي عدم صوغ السياسات العامة على قاعدة الاحتمالات الممكنة والبدائل الملائمة لكل احتمال. وهذا ناجم عن التفكير المشيخي الذي تتسربل به جميع منظمات الاسلام السياسي في العالم العربي. وحركة حماس، في هذه الأيام، لا تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بحسب رغبتها فبعد سقوط حكم الإخوان في مصر، وبعد وقوف السعودية والامارات العربية المتحدة بقوة ضد الإخوان في كل مكان، وبعد تهتك الوضع التسلطي لحركة النهضة في تونس، وبعد إطالة أمد الحرب الأهلية في سورية وبقاء النظام لاعباً أساسياً، وجراء تفكك المعارضة السورية بصورة تدعو إلى السخرية، فإن البعض في حركة حماس يريد أن يغير سياسة الحركة بطريقة انعطافية، وهذا غير ممكن. ولعل الكلام على تعديل الخيارات السياسية لحركة حماس والتلويح بإعادة العلاقة مع إيران إلى سابق عهدها، وتسريب أخبار عن زيارة يزمع خالد مشعل على القيام بها لإيران، تندرج كلها في هذا السياق المتأزم. ومثل هذه الإشارات المتضاربة والمتناقضة لا تحصد إلا المزيد من التضييق على الفلسطينيين في غزة وإقفال معابرهم إلى مصر، وهدم أنفاقهم. وها هي حركة حماس، حتى بعد هذه الاشارات التي وردت في خطبة اسماعيل هنية، متهمة بدعم الارهاب في سيناء والحقيقة ان الارهابيين في سيناء لا يستمدون الدعم المباشر من حماس في غزة، بل من الجماعات السلفية في غزة وفي مصر. لكن حماس، كسلطة أمر واقع، هي المسؤولة عن البيئة التي تجعل السلفيين في غزة ينخرطون مباشرة في الأعمال الارهابية في سيناء، او يدعمون السلفيين الارهابيين المصريين.

قصارى القول إن حماس التي أدارت ظهرها لسورية، وخفّضت علاقاتها بإيران وحزب الله إلى الحد الأدنى، وانتظمت في سلك السياسات الاقليمية لمصر وتركيا وقطر، لا تستطيع اليوم أن تعيد علاقاتها بإيران وسورية، لأن من شأن ذلك أن يجعلها تخسر تركيا وقطر والإخوان المسلمين بعدما خسرت مصر وليس من المؤكد أن سورية ستفتح ذراعيها مجدداً لقادة حماس، والأرجح ألا تفتح ذراعيها وأراضيها لهم على الاطلاق، لأن آخر ما تحتاج اليه سورية في خضم الاحتراب الأهلي هو إعادة العلاقة مع حماس، فلا أحد يحتاج حماس في هذه الأيام.

 

إذهبوا إلى غزة

هل إن سقوط الإخوان المسلمين في مصر سيؤدي، كما يعتقد البعض، إلى سقوط حماس في غزة؟ هذا السؤال، على مشروعيته التأملية، لا يشير إلى الجواب.وبالتأكيد، كان سقوط الإخوان المسلمين في مصر مدوياً في غزة، وأثار الذعر لدى كثير من الفلسطينيين، لكن نتائج سقوط الاخوان في مصر لن تكون فورية أو تلقائية، مع أن انعكاسات هذا السقوط على حركة حماس نفسها كانت فورية، وبدأت التصريحات المتناقضة لقادة حماس تثير الانتباه، الأمر الذي يدل على ظهور تكتلات داخلية تتعارك على الخيارات السياسية للحركة التي لم تقدم أي طراز جذاب للسلطة، أو أي نموذج أرقى من النموذج الذي أسسته حركة فتح، بل إن النموذج التسلطي الذي ساد قطاع غزة منذ 15/6/2006 جعل الناس لا ترغب في أي شيء إلا الخلاص منه. ولو أُجريت الانتخابات اليوم فلن تحصل حركة حماس، بحسب أفضل استطلاعات الرأي، على أكثر من 14% من الأصوات.

السؤال الحيوي اليوم هو التالي: أي مشروع سياسي أو اجتماعي لحماس في غزة؟ الجواب لا شيء... ولا وجود لمثل هذا المشروع. هناك مشروع أمني بالتأكيد، لكن هذا المشروع سقط بسقوط الظهير الإخواني المصري، وباتت حماس في غزة بلا خيارات جدية، وليس أمامها في معمعات التحولات الجارية في العالم العربي إلا إدارة أزمتها وتقطيع الوقت لعل الأيام المقبلة تأتي إليها بأفضل مما يعرضه الحاضر عليها. وفي المناسبة، لماذا يقيم قادة حماس في الدوحة والقاهرة؟ لماذا لا يذهبون إلى قطاع غزة؟