بقـلم/ محمد سرور

العجزان الداخلي والعربي شرَّعا الأزمة السورية على أسوأ  الاحتمالات. فعلى الأقل مدَّدا عمر الحرب الأهلية المدمرة، ومنحاها المزيد من فرص التمادي في تفكيك المكون الوطني الذي كانت ولا تزال تقوم عليه دولة سوريا الموحَّدة.

العقدة الأساس في صياغة المشكلة بواقعها الحالي تكمن في التحاق قوتي الصراع "المفترضتين" بمعسكرين يختصران بمعنى "أولي" ملامح الحرب الباردة التقليدية. وتتعمقُ العقدة إياها حين تقع في قبضة مصالح وأيديولوجيات عابرة للحدود، وآخذة في التمركز والتجذر، مما يجعل من سوريا مؤهلة في المدى المنظور لأخذ دور المصفاة- المركز- لأشكال "الحراك"  على اختلاف مسارها.

ومما يزيد ضراوة الأزمة تلك الاستجابة- المستوردة- للخطاب الطائفي.. والمذهبي وتدحرج عصبيّاته في ميدان الفعل من خلال ممارسة تسعى جاهدة  لتكريس مستقبل سوريا وفقاً لأجندتها، مما يؤبد جدلية الربط بين المكونات الثقافية والأيديولوجية العابرة للحدود والكيانات.

يؤكد ما سبق وصول عدد ضحايا الحرب المجنونة إلى ما يفوق الرقم المحدد ب "107" آلاف بكثير، وعدد  المفقودين المحدد بحوالي 95 ألفاً أيضاً، فيما تجاوز عدد اللاجئين الثمانية ملايين لاجئ.

المخيف بالنسبة لعدد اللاجئين هو ارتباطه الوثيق بإعادة رسم المشهد المستقبلي لسوريا الغد، خاصة عندما نشهد دمار الدولة المركزية في الكثير من المدن والأقاليم وحلول قوى أفرزها واقع الصراع الدامي بصفتها من يحدد خارطة الوطن الجيو- طائفي والمذهبي.

ومنذ بداية الأزمة قلنا بأن القرار الدولي "مغيب" عن سابق قرار وتصميم، لكي يبقى الصراع طوال المدة اللازمة سيد المسارات وأمير ديمومتها.

لم تغب عن البال الدولية نتائج التدخل في كل من العراق وليبيا. ففي العراق عجزت الولايات المتحدة عن بناء النموذج الذي يطابق خارطة مصالحها دون الشراكة العرفية القائمة مع إيران، فيما تدمير السلطة المركزية السابقة يكلف البلد بين 800 والألف قتيل شهرياً، مما يدل على تناغم الأفرقاء في رسم دائرة الدماء بصفته خياراً قائماً على النبذ المتبادل والتمادي في إنكار فكرة البحث عن خيارات أخرى للتعايش وبناء عراق على أسس المواطنة والعدالة الوطنية.

العرقنة باتت مثالاً على التحلل والتنكر من القيم الإنسانية والوطنية، وبموازاة ذلك فإن بوادر انقسام البلد وتفككه باتت الأقرب إلى الواقعية منها إلى الوحدة والوئام.

وفي ليبيا التي قادت عملية تدميرها كل من فرنسا وبريطانيا، فإن تجربة بناء سلطة مركزية منتخبة ومعها إعادة بناء سلطة مركزية تتولى قيادة البلد قد آلت إلى الفشل.

ليست السلطة المركزية هي الأضعف فقط، إنما بروز نفوذ القبائل المسلحة، والاثنيات والقوى المرتبطة بتنظيم القاعدة، باتت الأمر الواقع الآن وعلى حساب الشرعية الجديدة.

هل ما حصل في العراق وليبيا، وما يحصل في سوريا خطط متعمدة أم خيارات خاطئة؟

الكيانات على أسس دينية وعرقية مطلب وحاجة إسرائيلية بامتياز. تعميم الديمقراطية والبناء عليها كقاعدة للتطور والتحديث في البلدان العربية المذكورة لا يجب أن تتم بالقوة، إنما بالتدخل المباشر لتعزيز الحوار وتنمية ثقافته وفق منهجية الخطط والمراحل وأهم ما يحتاجه ذلك التأكيد على مسألتي الاعتراف بالآخر وتعزيز الثقة بأهمية التواصل معه، وذلك يحتاج إلى نقطة ارتكاز تفترض وبهدوء بأن لكل صراع نهاية لا بد أن تقوم من خلال تسوية.

للأسف الشديد، لم تزل العقلية القبلية، القائمة على العصبيَّة والتشدد في قراءة القضايا وطرق معالجتها هي الأسس التي تقوم عليها ثقافة النظر إلى الآخر- تعريفاً ومنهجاً.

هذه العقلية ببعدها الانفعالي تقيد العقل وتمنعه من التحرر الشخصي والجماعي، بحيث تحتفظ بإرث من التراكمات العدائية المثيرة للغرائز، معلله أسباب الثأر وضرورات إنتاج مسار ضد الآخر يوازي ما سبق وبكل معاني وأبعاد العدالة القبلية.

بالمقابل تمنع هذه العقلية الشائعة والجاذبة للعنصر الشبابي، أصوات المعتدلين والمخضرمين في ثقافة التعدد وصياغة المنهجيات التوفيقية القائمة على التفاعل الإيجابي بين المكونات المختلفة بوضع منافذ ومخارج تضيء على المشترك والمفيد والمحدِّث للبلد ولمقتضيات بنائه وفق آلية حريصة على وحدته وتطوره.

ولأننا ننتمي إلى ثقافة القادة والرموز، فإننا لم نزل بعيدين عن ثقافة المؤسسات، كوننا لم نرها ولم نجربها أصلاً، وكوننا كثيراً ما حرصنا على الربط بين القائد الزعيم وبين هوياتنا الوطنية.

لذلك فإن الأولوية القصوى، أمس والآن وغداً، تكمن في بلورة وترسيخ العلاقات بواسطة العقل المؤسساتي، وبإعادة إنتاج الهويات وفق مقتضيات ثقافة الانتماء والمواطنة.

هل الغرب والشرق لا يعرفان ذلك؟

المفاجأة الكبرى ترتبط بالتاريخ، أي بهزيمة المحافظين الجدد المتصلة بسياسة المحاسبة على النوايا المفترضة، ومعها تعميم الفوضى الخلاقة غير المرتبطة بآلية وبنتائج حتمية. وهذا يعني أن الهجوم على أفغانستان والعرق بزلات لسان صليبية قد أنتج وبردات فعل دينية النماذج التي تدعي الدفاع عن الهويات الأصلية من دنس الصليبية الجديدة.

ووفق آلية الاستجابة لنداء التاريخ بدأتْ فوضى الربيع العربي الخلاقة في زمن الارتداد الأميركي عن البرنامج البوشي بعد هزيمته أمام واقعي الانكشاف الأيديولوجي والأزمة الاقتصادية التي وصلت شظاياها إلى الغالبية العظمى من دول العالم.

إذاً الربيع جاء من الخلف، من سياسة أسقطها الزمن بعيداً واستعادها الواقع مجردة من أدواتها الأصليين.

لذلك ما نشهده من فوضى سياسية دولية حيال سوريا اليوم، هو في جزء منه حذر أميركي حيال الغوص في بحيرة الدم السورية، وفي جزء آخر عدم استعجال التسوية أصبح أمراً ملحاً، كونها لم تؤد غرضها المنشود بعد. وإذا كنا نرى في التشدد الروسي انطلاقة ايجابية نحو خلق مناخ يتيح لحالة من التوازن الدولي بالتحالف مع الصين النامية والواعدة بأن تصبح عملاق العالم الاقتصادي، هذا التشدد لا يضرُّ التحالف الغربي، فهو من جهة لن يتسبب بحرب مباشرة مع روسيا، ومن جهة ثانية يمنح "الخبث" الغربي مساحة مناورة نموذجية للتهرب في استمرار النزف السوري، بحيث يبدو التشدد حالة مدعومة من التحالف الذي تقوده روسيا، وبالتالي يذهب الغضب العربي والعالمي باتجاه يريح الغرب كثيراً.

يبدو المشهد على حقيقته من خلال تمنع مجلس العموم البريطاني عن التصويت لصالح التدخل العسكري. كذلك من خلال تردد إدارة أوباما عن طرح مسألة التدخل على البرلمان الأميركي.

ورغم ذلك اتفق الجميع على مسألة تجريد سوريا من سلاحها الكيميائي، وعلى استمرار الحرب الداخلية، التي تستنزف كل مصادر القوة والمنعة.. إنها مسرحية، منتجها محورا العالم.. مسرحها سوريا والمنطقة.. كلفتها حاضر ومستقبل رمادي أقرب إلى السواد..

إن محبة سوريا وشعبها يجب أن تنطلق من الحرص على وقف دوامة القتل والدمار، وبذات القدر تنطلق من حياد إيجابي يأخذ  في الاعتبار سيادة واستقلال سوريا، ودعوة صادقة تضع الشعب ومصلحته في المرتبة الأولى للحسابات والتطلعات.

الذي يبدو اليوم صارخاً في قداسته وأحقيته سوف يفقد غداً أهليته وشرعيته، فالدم هو المستنقع الذي لا يبقي نقاءً وعفة وطهراً، كونه السبيل إلى الدمار والاندثار، خاصة حين يقع في مصيبته الشعب والأهل في البلد الواحد.

صرخة نعلنها:

لا شرق ولا غرب أحرص على سوريا من أهلها. تفاوضوا وانتخبوا ما هو خير لسوريا وشعبها..  تسوية يباركها منطق التاريخ، خاصة عند الوقوع في حرب العبث المجنونة، فلا تتركوا الندم يتأخر أكثر.