خاص مجلة "القدس" العدد 340 اب 2017
بقلم: محمد سرور

خرج الأيديولوجيون علنا هذه المرة، دون أقعنة، خرجوا مدججين بعدوانيتهم وعنصريتهم. كأنهم يقولون: جئنا لكي نستعيد أميركا، نحن الانغلوساكسون الذين أبدنا الهنود الحمر، والذين أسسنا أمبراطورية العظمة الأميركية.
واجهوا بوحشيّة الأبيض الذي غزا أميركا منذ مطلع القرن الخامس عشر، الذي أباح لنفسه حق التصرّف بالبشر والأرض وما عليها... وكرّس منذ ذلك الحين مقولة: حق القوة.
حين يتكلم الرئيس الأميركي الأشد منافسة للرئيس السابق جورج بوش الابن، ولكل رجال العصور والمراحل السابقة، فإنه يدرك جيدا مدى يقظة المكوّن العنصري في الولايات الاميركية، ومدى جدية هذا المكوّن في البطش بلا رحمة. إنه الرئيس الذي يمثّل هذا البعد في العقل الاميركي الجديد.
الوكر الأصلي للأنغلوساكسونية مركزه لندن، التي باعت أوروبا ولا تتردد عن بيع العالم كله لأجل صون حلف الدم والعرق مع الولايات المتحدة... لأجل الحفاظ على العلاقة العميقة مع النموذج العنصري في المساحة الاميركية، نموذج دونالد ترامب ويمينه الذي أشهر سيف العودة بقوة إلى ساحة الفعل المباشر.
هنا نتذكر فلسطين، التي منحتها حكومة الانتداب البريطانية للمستعمرين الجدد- اليهود، ونقارن بين قيامتين فريدتين في عصرنا: قيامة الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل. حيث البعد الاصلي للنشأة واحد. والفاعل في المساحتين واحد. يستحضرني هنا قول لسنتيا ماكاي ابنة أحد السيناتورات الاميركيين السابقين: الذي يحكم العالم حكومة ظل لا نراها ولا نعرفها.
يستحضرني الان خوف مضاعف، خوف السائل على المصير وعلى الغد الانساني وفلسطين. على مستقبل شعب فلسطين... حيث بات المجاهرون بالاعلان عن أن خطر القبول بالتسوية مع الفلسطينيين أكبر من خطر بقاء الاحتلال وتكريسه.
في خارطة تقسيم المنطقة الان احاديث كثيرة عن تغيرات ديموغرافية سوف تصاحب عملية التقسيم، وهذا هو الاساس المنطقي للتدمير المنهجي للكيانات العربية التي سقطت عليها المؤامرة الدولية، وليس مصادفة أن يكون المخطط بدأ من لندن وواشنطن معا. ديك تشيني قالها بالفم الملآن: غزو وتدمير العراق حصلا من أجل إسرائيل. وزير خارجية فرنسا السابق قال أيضا: تدمير سوريا يحصل بسبب خطرها على إسرائيل. تذكرنا هذه التصريحات بأحاديث عن مناسبة تاريخية متناغمة مع واقع التقسيم والتهجير العربيين وضمن خطة منسقة ومدروسة بعناية لكي يتم تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية والاراضي المحتلة عام 1948. ويذكرنا أيضا بتصريحات إسرائيلية تقول: كنا سوف ندفع ثمن التسوية التخلي عن مرتفعات الجولان، إلا أننا احسنّا الانتظار.
لا يبدو أننا قوم يقرأ، ولا يبدو أن الدوائر الضيقة في القصور والصالونات تعرف ما يدور حولنا، لا دراسات ولا مراكز تنوير وبحث عما يدور في الاروقة والحلقات المصغرة بين راسمي سياسات واستراتيجيات تتعلق بنا مباشرة، تمسّ مصائرنا وتتلاعب بحيثيات بقائنا.
لصراعاتنا الداخلية أبعادها المذهبية والطائفية والقبلية والاثنية، نتقاتل بكل ضراوة وتوحّش فيما بيننا، تغيب عن ذاكرتنا الجمعية الاسئلة الصعبة والعميقة، ونتحوّل جميعا إلى عصابيين وانفعاليين... ننسى أننا في عالم المكائد والخطط والمؤامرات الماحقة... والمبيدة. مصيبة المصائب أمام كل ما يحصل في منطقتنا أن ثمة من خطط لهذه الحال. وثمّة من سوف يحصد نتائجها ويقرر نهايتها وشكل مستقبلها... كلُّ خساراتنا تشكل حطب الحريق لا أكثر.
خلال زيارة ترامب الاخيرة إلى المنطقة، لم يأتِ على ذكر حل الدولتين... بل أنتج من خلال تصريحاته النارية وتلميحاته المخيفة مناخا من التراكض العربي نحو الكيان الصهيوني، وصار بامكان العديد منهم الاعتراف بأن إسرائيل ليست عدوا- بالطبع استطاعت الولايات المتحدة تغيير بوصلة العداء ومفهومه باتجاه دولة أخرى.
هنا لا بد من التشديد على أن المعادلات السليمة لا تبنى على أساس نظرية البحث عن العدو، كالمعادلة الاسرائيلية الثابتة، والمقتبسة عن الاستراتيجية الاميركية. ولا ينبغي التلاعب على نظرية عدو عدوّي صديقي. ما سبق لا يعني تدخلا في شؤون سياسات الغير، إنما يعني وبقوة مدى الضرر الذي أصاب ويصيب القضية الفلسطينية وشعبها من سياسات يبرّرها أصحابها ومحقون بتبريرهم: يدفعون ثمن بقائهم ملوكا وأمراء... لا أكثر.
معنى الكلام عن الحكام هنا، يأخذنا إلى سوء نية حقيقي وبعيد الأثر عن معنى الوطن والمواطن في حسابات الحكام. ويأخذنا إلى اليأس من إمكانية إصلاحهم والوثوق بهم كأمناء على بلدانهم وأمتهم... ومصيرها.
الضحية الأسهل على البيع في سوق سياسة حكامنا العرب والتجاهل العميق الآن هي فلسطين. رغم أن كل ما يحصل حولها أو بعيدا عنها مرتبط بها ارتباط الدم بالوريد.
عندما نربط خوفنا من العنصرية المتجددة في الولايات المتحدة بما آلت إله حال حكامنا في علاقتهم مع شعوبهم ومع قضية فلسطين، نبرر لأنفسنا الخوف ونحاول قدر المستطاع التفكير عن مخرج اقل كلفة وخسرانا... وبذات القدر نؤدّي التحية لأولئك القابضين على جمر هويتهم وانتمائهم في القدس، وإلى رماة الحجارة المنشدين حريتهم واستقلالهم في المقاومة الشعبية.
الاستبداد والقيم مفارقتان لا يمكن أن تلتقيا، وفي صلب القيم الانسانية والدينية تقع قضية فلسطين، بصفتها قضية حق وعدل وأخلاق ورحمة، ولأنها تمثل النوذج الارقى في البعد الكوني للانسانية يجب ان تعني أول من تعني الأقرب إليها، الأقرب رحمة وإنسانية ودينا وغيمانا بالعدل والحرية. فلا ضرورة لأن نناشد ابناء الأمة وقادتها وطليعييها من المثقفين والمناضلين.
عندما نرى مصر مكبلة بالأزمات الخانقة، على مستويي الارهاب الذي يفتك بجيشها وابنائها، وعندما نرى ثقل وهول الأزمة الاقتصادية فيها، وعندما نرى العراق ممزقا ومهشما ومثلهما سوريا وليبيا واليمن، ندرك هول ما يخطط لمنطقتنا وكياناتنا وشعوبنا... وندرك أيضا ضلال أهل التخمة بيننا وفظاعة جرائمهم بحق أوطان وشعوب بكاملها. إن المتآمر الأول على المنطقة هم أهل العروبة والاسلام قبل غيرهم. لأن الغير في أدبياتنا غرباء وأعداء... وشركاء لأعدائنا، فما الذي دهى القابضين على الثروات لكي يسهموا طوعا واقتناعا بما خرّب ودمر وأجرم بحقنا جميعا؟
عندما نرى وباء التطرف والتكفير والاجرام بيننا، يفتي وينكّل ويرتكب الفظاعات بالآمنين من عباد الله، ندرك هول الجهالة التي تنخر عظام شعوبنا وتسهم بقوة في تخريب وتدمير وتفكيك بنى إجتماعية وإنسانية تلاقت وتعايشت مع بعضها قرونا وآلافا من السنين. من هم هؤلاء، إن لم يصنّفوا أدوات فعالة لمشروع المؤامرة الكبرى على بلادنا وشعوبنا؟
اية قيامة لنا إن لم ندرك خطر ما يواجهنا، وإن لم ندرك بؤس مصيرنا الذي يزحف إلى مدننا وقرانا ومخيماتنا وأزقتنا وحاراتنا... إن كل ساكت- مهما كان يقصد بسكوته عما يجري- هو مساهم في التعمية على هؤلاء. لنستيقظ... لنتعلم دروسنا ودروس الغير، إذ لا رحمة تنتظرنا، ولا عدل يأتي إن لم نكن يقظين عارفين انفسنا وعدوّنا.
مصائرنا هي الخسائر الجانبية التي لا معنى لها في قاموس الذي يستهدفنا. فالارهابي التكفيري يرى فينا: إما كفارا تخلص منا، وإما مؤمنين عجّل في إيصالنا إلى الجنة. وصاحب المشروع الاستعماري يهمه أن يستعبدنا ويجعل منا مطايا لاهدافه وتطلعاته، فالمهم لديه هو الحصول على الأرض والثروة... لنكون مجرد سوق لبضاعته، أو أجراء وخدماً لترفه ورخائه.
من حقي أن أدقّ طبول الخوف... وأعلن ضرورة اليقظة... فالوقت ليس لصالحنا أبدا، والضحية الأولى قبل وبعد: هي فلسطين.