خاص مجلة "القدس" العدد 340 اب 2017
بقلم: صقر ابو فخر

ربما ينضم بنيامين نتنياهو قريباً إلى مَن سبقه من رؤساء الحكومات في اسرائيل في الاستقالة من منصبه جراء الفضائح المتصلة بالأمانة والنزاهة. وفي هذه الحال، إذا صحّت التوقعات، ستكون اسرائيل على أعتاب هزة سياسية قد تؤدي إلى انتخابات مبكرة. والتهم التي تلوِّح بها الشرطة الاسرائيلية في وجه نتنياهو هي: الرشوة وخيانة الأمانة والاحتيال. ويواجه رئيس الحكومة الاسرائيلية قضيتين في وقت واحد: القضية الأولى هي الحصول على هدايا وأموال من رجال أعمال وأصدقاء من خارج اسرائيل بصورة مخالفة للقوانين، والقضية الثانية هي عقده اتفاقاً في سنة 2014 مع نوني موزس يقضي بالعمل على التأثير في سياسة صحيفة "يديعوت أحرونوت" وتحويلها من مناوئة لنتنياهو إلى مسايرة له لقاء منافع متبادلة، ثم تمرير قانون يمنع ملحق صحيفة "يسرائيل هايوم" (ميكور ريشون) من التوزيع المجاني، وهي أوسع الصحف الاسرائيلية انتشاراً، ويملكها الملياردير الأميركي اليهودي شيلدون أولسون، وهو صديق لنتنياهو. وقد اشتراها أولسون لتعزيز اليمين الصهيوني ودعم نتنياهو بالتحديد. وفوق ذلك تحوم شبهات كثيرة في شأن رشوة كبيرة تلقاها نتنياهو بعد عملية شراء غواصات من ألمانيا. ونقطة ضعف نتنياهو في هذه التهم أن إريك هارو الذي عمل مديراً عاماً لديوان رئيس الحكومة، أصبح منذ 4/8/2017 شاهداً ملكاً في قضايا الفساد التي تواجه نتنياهو بموجب اتفاق مع النيابة العامة الاسرائيلية. وبسبب ذلك شن اليمين الصهيوني حملة من الشتائم ضده، وشبهوه بـ "يهوذا الاسخريوطي" الذي سلم المسيح للرومان، وأطلقوا عليه لقباً مشيناً جداً في الثقافة اليهودية هو "مويسر" أي الواشي بالييديشية، أو الذي يسلم يهودياً للسلطات المعادية لليهود.

تحولات السلطة والمجتمع
روّجت الدعاية الاسرائيلية طويلاً لركيزتين تحكمان السلوك الاسرائيلي هما: طهارة السلاح، وطهارة معايير السلوك للمشتغلين بالسياسات العامة. وكانت القاعدة الدائمة هي عدم تربّح السياسيين على حساب المال العام ومصالح الدولة وهو ما تعنيه عبارة "طهارة المعايير". غير أن اسرائيل كما ظهرت صورتها في مرحلة "الزهو الأولى"، أي بعد النكبة الفلسطينية في سنة 1948، لم تبقَ على ما هي عليها في ستينات القرن العشرين، وراحت تتغير بالتدريج بعد حرب 1967، فاتسعت ظاهرة الفساد والرشوة، وترافق ذلك كله مع تحول الاقتصاد الاسرائيلي، وبالتحديد بعد الانقلاب السياسي الكبير في أيار 1977 حين تولى الليكود السلطة على أنقاض حزب العمل، من اقتصاد تدير الدولة معظمه على طريقة دول الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، إلى نظام اقتصادي ليبرالي على الطريقة الأميركية حيث تتنافس فيه بلا هوادة مجموعات اقتصادية متعددة الاتجاهات ورجال أعمال وسماسرة وقانصو ثروات وصفقات. ولم يقتصر التغيّر في اسرائيل على الاقتصاد وحده بطبيعة الحال، بل تغيرت بنية إسرائيل الاجتماعية أيضاً، فبعدما كانت دولة ذات طابع أوروبي أشكنازي، صارت دولة تغمرها الحياة السفاردية، وراحت تقترب من دولة عالمثالثية، وازداد نفوذ اليهود السفاراد الذين هم، في الأعم الأغلب، يمينيو الانتماء وشديدو التعصب الديني. وفي سياق متصل انقلبت الثقافة السياسية في اسرائيل بدورها لأن النخب الأشكنازية التي قادت مراحل التأسيس الاستعماري لإسرائيل بدأت تتحلل بالتدريج ابتداء من سنة 1977، في الوقت التي راحت النخب السفاردية تحسن مواقعها في السلم الاجتماعي الاسرائيلي. والواضح أن إسرائيل ما عادت من دول العالم الأول، فهي واقعة جغرافياً في العالم الثالث، وأكثر من ستين في المئة من سكانها أتوا من دول العالم الثالث، ومشكلاتها باتت اليوم تشبه مشكلات العالم الثالث إلى حد كبير كالفساد والرشوة وفقدان القيم والعنصرية والتهميش الاجتماعي والتفاوت الطبقي وصعود مواقع المتدينين وازدياد العنف الداخلي ومعدلات الجريمة... الخ.  وفي هذا الميدان يمكن القول إن ما يسمى "عصر الرواد الصهيونيين الأوائل" أمثال دافيد بن غوريون وحاييم وايزمن قد انتهى واندثر، وانتهى أيضاً زمن القادة المبجلين أمثال غولدا مئير وشمعون بيريز وموشى دايان ويتسحاق رابين ويغآل يادين وأضرابهم.
 
تاريخ من الفضائح
في آذار 1977 كشف الصحافي دان مرغليت ان رئيس الحكومة يتسحاق رابين يمتلك مع زوجته ليئة حساباً مشتركاً بالدولار في مصرف "ناشيونال بنك" الأميركي، وأن هذا الحساب فُتح في أثناء وجود رابين في واشنطن سفيراً لاسرائيل في الولايات المتحدة، وكان من المفترض إغلاق ذلك الحساب فور انتهاء مهمته في سنة 1973. وجراء مقالة دان مرغليت اضطر رابين إلى الاستقالة بعد الموقف الصارم الذي وقفه المستشار القضائي أهرون براك، وتعهد بعدم الترشح للانتخابات النيابية على قائمة المعراخ (التجمع)، فانتقلت قيادة حزب العمل (العمود الفقري للمعراخ) إلى شمعون بيريز الذي خسر المعركة الانتخابية في أيار 1977 لمصلحة الليكود (التكتل) بزعامة مناحيم بيغن. وفي سنة 1979 أتهم أهرون أبو حصيرة، وكان وزيراً للأديان، بالفساد واستخدام الأموال العامة خلافاً للقانون، وسيق إلى المحكمة. وفي سنة 1993 أصدرت النيابة العامة الاسرائيلية  لائحة اتهامات ضد آرييه درعي تتهمه بتلقي رشاوىٍ وسرقة أموال وتحويل أموال إلى حركة شاس لليهود الشرقيين حين كان وزيراً للداخلية في سنة 1990. واتهم رئيس الحكومة ايهود أولمرت بممارسة الفساد حين كان رئيساً لبلدية القدس (1995)، وعندما كان وزيراً للتجارة والصناعة في حكومة نتنياهو (1996)، وبتلقي أموال من الثري اليهودي الاسترالي موشي تالينسكي للموافقة على مشروع إسكاني كبير يدعى "هولي لاند"، وحكم عليه في سنة 2016 بالسجن، وأطلق في حزيران 2017. أما أريئيل شارون فقد أمضى أواخر أيامه في معالجة التهم التي وُجّهت إليه بتلقي أموال من رجل الأعمال النمساوي مارتن شلاف أحد مالكي كازينو "الواحة" في أريحا، ومن سيريل كيرن وهو أحد أصدقائه، لتغطية نفقات حملته الانتخابية داخل الليكود سنة 2001. وقد تحمل ابنه عومري تبعات هذه التهم فحكم عليه، بعد موت شارون، بالسجن في سنة 2015. وأَبعدُ من الفساد المالي هناك الفساد المبتذل المرتبط يالانحطاط الخلقي كفضائح التحرش الجنسي التي فشت في المستوى السياسي الحاكم. فرئيس الدولة موشي كتساف (فارسي الأصل) سجن لثبوت واقعة التحرش الجنسي والاغتصاب, ويتسحاق مردخاي (كردي يهودي في الأصل) فقد موقعه بفضيحة جنسية أيضاً. واضطر حاييم رامون، وزير العدل، إلى الاستقالة في 20/8/2006 بتهمة تقبيل موظفة في وزارة العدل عنوة. وعلى هذا المنوال تدور الحياة السياسية في اسرائيل: عنصرية وفاشية ضد الفلسطينيين، وعنجهية عسكرية، ورشاً وفضائح من شتى العيارات، وإقفال الأبواب أمام أي حل سياسي للقضية الفلسطينية.

في المركب المثقوب
في معمعان هذا التلاطم الخطر يتمايل نتنياهو بين حدين: إدارة الظهر لتلك الاتهامات والاستخفاف بها، والخوف من أن تتطور الاتهامات بالفعل إلى توجيه لائحة قانونية ضده. ويحاول نتنياهو أن يظهر أمام الإعلام كأنه لا يبالي بما يوجه إليه. ويشن انصاره حملات إعلامية مضادة لا تفتقر إلى السوقية أبداً. وفي خط موازٍ يعمل نتنياهو على تشتيت الاعلام المعارض بالكلام على صفقة تبادل الأسرى مع حماس، والعودة إلى التفاوض مع الفلسطينيين، وان الاستخبارات الألمانية والمصرية تقومان بمهمة الوساطة. والمعروف أن لدى حماس أربعة اسرائيليين، اثنان قُتلا في أثناء العدوان في سنة 2014 هما هدار غولدين وشاؤول آرون، واثنان غير معروفة على وجه اليقين حالتهما الصحية. ومهما يكن الأمر، فمن المؤكد أن المعركة على خلافة نتنياهو ستنطلق قريباً، وهذا مرهون بالطبع بتوجيه لائحة اتهام ضده. وفي حال صرف القضاء النظر عن توجيه مثل تلك اللائحة تكون اسرائيل قد اختارت تجنب الصراع السياسي الداخلي على التزام القوانين، وهو ما يجعلها حقاً دولة من دول العالم الثالث. غير أن المؤكد هو أن ما يجري في اسرائيل ليس فضيحة للنظام السياسي برمته، بل فضيحة حتى الآن، لأصحابها. لكنها فضيحة جدية للعالم العربي الذي يكاد لا يُكشف فيه إلا واحدة في الألف من الفضائح المروِّعة.