خاص مجلة "القدس" العدد 340 اب 2017
بقلم: بكر ابو بكر

تعيش المجتمعات الاستبدادية حالة متصلة من الرعب والخوف الشديد لدى أفراد المجتمع ، ولدى الجماعات فيه لأن شخصية المستبد الطاغية وعصبته الأمنية لا تجعل لأي شخص ينظر أو يسمع أو يتكلم إلا وفق الرؤيا الخارقة والفكر المبجل المعظم.
ويتشكل الشخص المستبد (الديكتاتور) من رذالة المحيطين به، فكلما أشار بإصبعه وجد العشرات من الإمّعات يتراكضون لتلبية طلبه وهو في أشد حالات اشارته يطلب لفافة تبغ (سيجارة)، وعندما يتفوه المستبد الظالم فإن كلام الله يخرج من فمه كالعطر الفواح عند زبانيته ، وعندما يلقي أوامره الثقيلة تجد من العصبة المحيطة به من يبررها على سخافتها أو سماجتها أو حماقتها.

حوار الكواكب
كان هذا بداية لحواري من صديقي القادم في إجازته السنوية من كوكب آخر
قال لي: هل أنت تشير كما يبدو للوضع العربي السلطوي الحالي أم ماذا؟
قلت له: ان هذا الكلام باعتقادي صالح لكل زمان ومكان، فعندما كتب الشيخ عبدالرحمن الكواكبي ظن كل مستبد أنه يتحدث عنه، فتكالبت عليه الكلاب فأردته شهيد الكلمة.
قال: إذن أنت لا تتحدث عن دولة أو نظام بعينه؟
قلت: أنا أصلا قد كتبت هذا الكلام  أو مثله منذ سنوات أي في العام 2013 ونحن اليوم بالعام 2017 لذا فليس للموضوع صلة بما يحدث هذه الأيام بهذه الدولة أو تلك تحديدا.
وأضفت: وكما قلت لك هو الكلام الدائم والصالح لكل زمان ومكان.
ثم قلت: إن الفكر دائم، والثقافة جامعة، والحضارات متفاعلة، والتعارف والتواصل الايجابي سمة الخلق، بينما السياسة نسبية ومتغيرة، وتتراوح حين الهبوط بين الفساد والمفسد والأفسد لا سيما عندما تتعانق فكرة الأنا العظمى مع الجوقة المزركشة للعباءات.
الفساد يعلو أيضا عندما  تتعانق الفكرة الدينية السامية مع المتغير السياسي الأناني المصلحي، ولك العودة لجدنا الكواكبي لتقرأ.
الفساد السياسي يتعملق أيضا عندما يُلقى السياسي بالثقافي التعبوي والأخلاقي القيمي في سلة الزبالة، فيصبح الكتّاب والمفكرون والمصلحون والوعاظ  والمثقفون مجالا مفتوحا للتندر والاتهام أو الشتم أو الاهمال المقصود.

عرضت عليه النص مكتوبا فقرأ
إن الشخص المستبد يأسر من حوله فيأسرون الناس بالأجهزة القمعية، وما الأمثلة في دول الربيع العربي ببعيدة عنا، وآخرها  كنموذج شره في سوريا  الشهيدة حيث الشهداء  بالآلاف، ومازال الطاغية أبا عن جد يظن أن الشعب يحبه، ويتبجح أنه لو اكتشف أن واحداً لا يريده سينسحب! وفي ذلك رد أحد الظرفاء السوريين أن كل من لايحبه أصبح إما تحت التراب أو خارج الوطن أو في حالة استعداد لأيهما.
قال الشيخ عبدالرحمن الكواكبي: (الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال)
ويقول أيضا: «المستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام. نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها: هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟.. والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه».
معادلة الاستبداد تتكون من شخصية مهووسة بذاتها دينياً أو فكرانيا (=أيديولوجيا) أو سياسياً، وتلتف حولها عصابة من الفاسدين ذوي الضمائر المنعدمة، وفيهم قال الكواكبي (إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه، أعداء العدل وأنصار الجور)، وأجهزة استخبارية مأجورة أو متساوقة تماما لمصلحة الأنا العظمى لا لمصلحة المواطن والوطن، والعلاقة التبادلية بين الطاغية الذي كلما ازداد عُجبا بنفسه ازداد مركّب (الأنا) فلا يرى أمامه أو إلى جانبه أو تحته أو فوقه أحدا.
المستبد يلقى التمجيد من العصابة وهي الجوقة من التنابل أو شياطين البلاط تلك المستفيدة ماليا ونفوذا وهيمنة وتحكماً ووجاهة ...، التي تدفعه دفعاً نحو الهاوية بتزيين كل ما يقول ويفعل.

#قال_السلطان_سمك_لبن_تمر_هندي .
 حتى لو قال الطاغية (سمك لبن تمر هندي) تضج بذلك كل الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي فليس بالبعيد عندما يتحدث المستبد ما غيره فيخلط ويخربط أن تمتليء الشابكة بوسم #قال-السلطان-سمك-لبن-تمر-هندي.
  هي نعم ذات الجوقة هي التي تضحك عليه وبنفس الوقت توهمه أنه يقول خطابا سماوياً مباركا أو ابداعاً فطريا كان يحاصر الزعيم منذ الصغر.
إن الشخصية المأسورة للقمع لا تتشكل بسهولة، فهي ولسبب القمع المستمر والقتل والتعذيب والتنكيل والافقار، أو تكرار الإهانة والإذلال ومنع حق التعبير والحرية تجعل من الناس إما ثواراً، وإما مأسورين. وما كان من الثورة الفلسطينية إلا أن رفضت الواقع المستبد ممثلا بطغيان الاحتلال فقالت: لا، ولن نكون شخوصا مأسورين للقمع لأننا ثوار.

مركّب الخوف والرعب
 المأسورون للقائد الزعيم السلطان الجهبذ لسبب القمع المتواصل يبدأ (أسرهم) نفسيا وفكريا دون رضا، ثم بدوام استخدام آليات الإذلال يجثو الكثير على أقدامهم، ويتحول ذلك إلى (عقيدة) لديهم فيجدون أنفسهم يدافعون عن الاستبداد.
إن مركب الخوف من الحاضر والمستقبل ، والتطيّر من الفرح ، والعكوف عن العمل بلا سبب ، والخوف على النفس والعائلة ، والخوف من الكلام أو الكتابة أو التعبير ، والخوف من القضاء لأنه يقينا غير نزيه والخوف من الاعتقال لأي سبب حيث التهم الملفقة جاهزة دوما كلها من مظاهر الشخصية المأسورة.
ويأتي الخوف من إظهار الرأي السياسي أو المجتمعي أو الديني أو حتى الإداري شديداً لحد الرعب فتنتشر ثقافة المجاملات كما قال الكاتب حسين العودات على حساب الرأي والنقد ويصبح النفاق الاجتماعي مستقراً حتى يصل للأسرة.

زركشة السياسي بالأيديولوجي
 الطامة الأكبر عندما يختلط الحكم السياسي بالفكراني (=الايدولوجي) أو الديني و المصلحي، حيث ان من يخالف أيها يصبح حكما ضد الدولة وضد القائد الملهم وضد الإمام أو الخليفة المعظم، ويصبح الناس أسرى مفاهيم مرتبطة فقط بما يقوله الإمام فلا يستطيع أحد أن يعبر عن رأيه في أي مسألة دينية (أو سياسية أو مجتمعية...) فهي محتكرة فقط لقوى الإرهاب الفكري- الديني التي زركشت رداء الدنيوي السياسي المتغير والنسبي بالعقدي الديني المطلق فتكفّر وتزندق وتحكم بالردة أو النفاق على كل مخالف مهما كان حجم تدينه وإيمانه، فالمسألة هنا هي الحفاظ على مصباح الهدى الوحيد ممثلاً بالحكم المقدس سواء من الناحية الإسلاموية أوالمسيحانية أو الأيدولوجية أو القومية أو المصلحية.
يقول مولانا الكواكبي: (إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ، وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات، لا يُؤيِّدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم، وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب)
النظام البارد، وأنا الإسلام!
في الوقت الذي يقتل الناس بالآلاف في سوريا تظهر شخصيات باردة تتغنى بالنظام البعثي القومي الذي يعمل من أجل فلسطين ؟! وفي الوقت الذي تسير فيه مصر نحو الديمقراطية الجديدة بحذر يتصدر أحد الاسلامويين ليقول ( أنا الإسلام والإسلام أنا)، ويزاود عليه زميل له في تونس حينما صنف التوانسة بين مسلم وكافر في ظل خلايا ظلامية تريد أسر عقول الناس لمنطقهم الحصري الاقصائي، وما تجدله مثيلاً عند العلمانيين المتشددين والاسلامويين في المغرب.
ان القمع ينتج شخصيات مشوهة من جهة، ولكنه من جهة أخرى يراكم الحقد والكراهية والثأر والثورة، وقلما تجد من رحمة ربك من يسامح وينطلق للبناء، لذا فان مقاومة الاستبداد أو الطغيان في الحارة والمجتمع والتنظيم والحزب والحكومة والإدارة واجب تحكمه القوانين والدساتير .
عبء على الجميع أن يتخلصوا من سلبيتهم، ويقطعوا مع عهود الظلمات ويرفضوا تسويرهم عقليا ونفسيا بآراء واجتهادات قطعية لأولئك المستبدين مهما حاول البعض تسويغ مقولة المستبد العادل حيث لا عدالة مع الاستبداد .
 ولا استبداد يعيش إلا بطأطأة الرؤوس وثقل عصا السلطان وبطشه حينما يخلع الناس بيعتهم مع الله، اذ لا يعبدون غيره مهما كان زي السلطان مزركشاً وموشحا بالآيات القرأنية أو الأحاديث.
يقول الشيح عبدالرحمن الكواكبي: (إنَّ الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتّى إلا في زمنٍ طويل).