بقلم/ بكر ابو بكر

ما زالت منطقتنا العربية تمثل المنطقة الأكثر اشتعالا في العالم، ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم خارج منطقتنا في محاربة المرض أو تلوث البيئة أو الفقر أو الجهل والأمية، أو في ذات الوقت الذي يسعى فيه العالم المتقدم لمزيد من الرفاهية والازدهار والاختراع وفتح مجالات جديدة علمية واقتصادية وفنية وفكرية واجتماعية ترزح شعوب العالم اللامبالي، أو ما يطلق عليه العالم الثالث تحت وطأة أزمات متلاحقة في افريقيا وآسيا وفي أوسطها منطقتنا الملتهبة.

لم تعد قضية فلسطين لوحدها مفتاح الاشعال لنار (الشرق الاوسط) فقط، ولم يعد (الخطر الايراني) كما يسميه البعض هو الداهم بالنسبة للمنطقة، وإنما استطاعت المنطقة أن تجرد حملات دينية أو علمانوية لتحارب الأمة بعضها البعض في إطار اشعال دائم للحرائق في بيت الجيران، وكأننا في البيت المجاور محصنون أو مستبعدون من امتداد هذه الحرائق.

إن القدرة على "اختراع الأعداء" أصبحت قدرة خاصة تتميز بها منطقتنا أو جمهرة من القادة السياسيين أو الدينيين أو المفكرين فيها ، وهي خاصية منها الموغل في القدم الذي يستنطق التاريخ بمركبه الأحمر، أو الحديث الذي ينفرد بذاته مكتفيا ومنفصلا عن حضارتنا وتاريخنا وديننا ما يؤدي بالحالتين الى التناقص المودي للإقصاء.

إن اختراع الأعداء أصبح سمة لازمة لفئتين من الناس الأولى هي تلك الفئة التي تتلحف بالحداثة والتقدم كما تراه في خارج منظومتنا الحضارية الفكرية العربية الاسلامية الرحبة من العلمانويين فتعمل على استبعاد أصحاب الفكر الاسلامي المستنير منه أو المتطرف أو المستثير على فرضية أن الدين أفيون الشعوب لذا لا بد من رفع عصا النهضوية والحداثة والتقدم في وجه أي انسان متدين أو متحدث يستفيد من حكمة وإبداع وقوة الدين.

أما الفئة الثانية فهي الاسلامويون أو الحزبيون الدينيون الذين يستعدون (من العداء) مخالفيهم جميعا في آلية (اختراع) مشابهة لأولئك العلمانويين حيث ان المواجهة أو الحرب او الإقصاء هو السلاح الوحيد لبقاء هذا التنظيم او الحزب أو لبقاء قيادته مقدسة في ظل انكشاف الستر أو بيان حقيقة الخديعة.

العالم يخوض التحديات فيخترع كل يوم آلاف التحديثات فيما نستهلك أكلا وشربا واستخداما، ونحن بنكبتنا بأولئك الواهمين المقدسين لذواتهم (نخترع) التخلف والارتداد والتباغض والاستعداء، ونجعل من العلم والتقدم والفكر المستنير قبائح وثانويات وترهات، بل نعتبرها من الامور المرفوضة فهي رجس من عمل الشيطان.

أن نخترع أعداء جدداً في المنطقة العربية باستحضار اسوأ ما في تاريخنا وحضارتنا، أو أسوأ ما أنتجته الحضارة الغربية يعني انحراف البوصلة ، وانجرار المنحرفين لاتجاه بعيد عن الله وعن القدس.

ثبات الفكرة حول الهدف والعدو الحقيقي دلالة وعي ويقظة وصدق ايمان، وانحرافه نحو الداخل غفلة وتعصب وبحث في غير الزمان والمكان ، فعدو الإنسان الحقيقي هي نفسه وما تحتويه من دهاليز مظلمة وقبائح تحتاج لجهاد أكبر وتحتاج لتطهير وتحتاج لقمع، وصديق الانسان هي نفسه إذ تصير هدى أو شيطانا، فشيطنة الآخر (شخصيا أو تنظيميا أو سياسيا أو دينيا....) هو انعكاس لمضمون ذاتي، والهداية ريح باردة في قيظ صائفة ، فكيف نختار.... هنا تكمن الفكرة والهدف.

 عدم القدرة أو العناد أو الرفض لممارسة التطهير الذاتي بالمراجعة و النقد واكتشاف السلبيات الذاتية والتنظيمية بعد الاعتراف بها وتصحيحها تعد سمة الجبابرة والطغاة مهما كان موقعهم ، فهم يحاولون ان يتشبهوا بالله عز وجل في صوابهم المطلق كما يظنون، وما هي إلا سنوات قصيرة يتلوها تراب كثير في ظلمة دامسة، لذلك كان الظلم والاستبداد والتجبر وما يشتق منه من كذب ومبالغات وقهر للناس وأسر لعقولهم وسلب لمشاعرهم مرتبط بأصحاب الفكر المكتفي بذاته ذاك الاستبدادي والإقصائي من اليمين أو اليسار كانوا.

(التطهير الذاتي) أو جهاد النفس سمة الأنقياء الذين لا يجعلون من (اختراع العدو) واختراع المؤامرة مشجبا يعلقون عليه انحراف فكرهم وسوء طويتهم وهزيمة مشاريعهم وضعف امكانياتهم وأوهام أتباعهم.

 إن لم تكن النفس هي درب الاصلاح الحقيقي، فان النوازع لا تنتهي والاختراعات المرتبطة بما يتم نسجه من الأكاذيب والأوهام والترهات تصبح أهدافا وحقائق تُصَبّ على الاتباع وحياً مقدساً، أو تقدماً وحضارة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها.    

أن نخترع ما يفيد البشرية ويسهل حياة الناس ويخلصهم من الاحتلال والفقر والجهل والتشرذم، ويزيد من سعادتهم ويقربهم من بعضهم البعض فنحن نصنع الحياة، وأن نوحد الناس نحو العدو السياسي-التاريخي الأكبر وهو محتل أراضينا فنحن نحدد الهدف الجامع، وأن نخترع ما ييسر أمورالناس ويحقق خيرهم، نكون بذلك على عتبة الايمان الحقيقي الذي جاء به رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، أما أن نخترع أعداء وهميين في مجتمع كله مؤمن أو كله مسلم، فيتجند الإنسان للحرب على أوهام أو أعداء مخترعين، فان في هذه الآلية فساد نفسي أو حماقة فكر أو سوء منقلب.

إن لم تكن القدس هي البوصلة السياسية للأمة كافة بتنظيماتها على اختلافها وبقياداتها فنحن نخترع أعداء وهميين في منطقتنا العربية، وإن لم تكن فلسطين هي الرابط والجامع والموحد لأقطاب الأمة فنحن ننحاز لأهوائنا وأحزابنا ومصالحنا بعيدا عن إرادة الامة بالتجمع والوحدة والتقارب والمصالحة.