فيما تعرض محيط الكون الفلسطيني إلى اضطرابات وزلازل قوية، فإن الحكمة تقتضي من الفلسطينيين أن يحددوا ويقرروا، أي الخيارات، التي يجب اتباعها من أجل تحقيق هدف المصالحة والتمكين الوطني، بدون أن يدفع الشعب وقواه السياسية الحية، والقضية أثمانا باهظة كالتي دفعها الأشقاء القريبون.

ففي سورية لم يعد ثمة مجال لتغليب الحوار والحل السياسي والمشهد الدموي هناك لينذر بمزيد من الدموية، خصوصاً في ضوء التهديدات الأميركية البريطانية باحتمال توجيه ضربة عسكرية محدودة ستكون شديدة القوة على خلفية اتهام النظام باستخدام أسلحة كيماوية في الغوطة، أدت إلى مقتل المئات من المدنيين. وفي لبنان تتزايد احتمالات تفجر الوضع على خلفية التفجيرات الدموية الصعبة التي استهدفت الضاحية الجنوبية مرتين وطرابلس، وإطلاق أربعة صواريخ على إسرائيل، الأمر الذي يهدد لبنان باضطراب كبير.

في مصر، المشهد أكثر من واضح فالاضطراب الأمني والفوضى لا تزال تعم الساحة المصرية وإن كانت تراجعت حدتها وأساليبها وأشكالها في معظم المحافظات، إلا أن سيناء تظل ولفترة على الأقل، جرحاً مفتوحاً.

المعركة مستمرة في مصر والحل السياسي الذي يمكن أن تشارك في صياغته جماعة الإخوان المسلمين، هذا الحل ما زال بعيداً، بسبب ما أصاب الجماعة من ضربات قوية وموجعة وبسبب العناد والمراهنات الخاطئة التي أوصلت الأمور إلى الحد الذي وصلت إليه من استقطاب شديد وحسم شديد أيضاً. وسواء أكان بسبب الوشائج القومية والدينية والثقافية والتاريخية، أو بسبب الجغرافيا السياسية، فإن الساحة الفلسطينية التي تعاني من أزمات خاصة بها، لا يمكن أن تكون بمنأى عن التأثر بما يجري في المحيط.

لقد عرفنا بالملموس وليس بالتحليل النظري، مدى خطورة استخدام العنف في معالجة التناقضات الداخلية، وعرفنا أيضاً مدى خطورة العناد والإصرار على الخيارات الفئوية الخاصة، وعرفنا أبعاد ومخاطر الاحتكار السياسي واعتماد أساليب تكميم الأفواه والحريات وتجاهل مطالب وإرادة الشعب.

وما دام الفلسطينيون جمعياً يعرفون كل ذلك، فإن الحكمة تتطلب، تجنب كل هذه الخيارات والممارسات فيما هم يسعون لمعالجة أزماتهم الداخلية.

لقد استفاض الكثيرون في شرح أبعاد الحدث المصري على نحو خاص، على الساحة الفلسطينية، على قطاع غزة وحركة حماس، باعتبارها الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، التي تواجه أزمة تاريخية ضخمة في الحوار، وقدم الكثير من هؤلاء الكثير من النصائح، وبعضهم عالج الأمر بشيء من الشماتة أو إطلاق التهديدات.

إن الوطنية الفلسطينية الحقة تقتضي الحكمة، والإقرار من حيث المبدأ، بأن حركة حماس، شأنها شأن كل القوى والفصائل، جزء ومكون أساسي من الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. يرتب هذا الإقرار على حركة حماس أن تؤكد ذلك بالممارسة العملية والعلنية، من زاوية، العلاقة بما يجري في مصر ومن زاوية العلاقة بالشأن الوطني العام، بما في ذلك ملف المصالحة.

ويترتب على الكل أيضاً، التوقف عن التفكر الانتقامي والتدميري والبحث عن حلول استيعابية تجنب الفلسطينيين خسائر لا طائل من ورائها. إن المعركة الأساسية والتناقض الأساسي هو مع المحتل الإسرائيلي، على أن معيار تأكيد هذه الحقيقة لا يتوقف فقط عند حدود التمسك ببرنامج المقاومة أو التمسك ببرنامج التفاوض والعمل السياسي.

في الواقع ثمة غموض في مواقف ونوايا القوى السياسية الأساسية، فكثير الحديث عن المصالحة لا يعني أنها قريبة وفي كثير من الأحيان تكون دلالة على التهرب منها حين يكون السلوك العملي على الأرض مخالفاً ومتناقضاً مع تلك الدعوات.

فتح تنصلت من اتفاقيات المصالحة، وفات الوقت على استحقاق تشكيل حكومة الوفاق، والبعض يتحدث عن خيارات صعبة، فيما يؤكد الرئيس محمود عباس أن الانتخابات غير ممكنة في ضوء استمرار واقع الانقسام وتلوح في الخفاء محاولات لإطلاق حركة تمرد فلسطينية.

إلى جانب الحراك الشبابي القائم فعلياً رغم ضعف حركته، وعلى الجانب الآخر، يقدم رئيس الحكومة المقالة والرجل الثاني في حماس، إسماعيل هنية، ما يعتبره مبادرة بدعوة الآخرين للمشاركة في إدارة القطاع، وإعادة فتح المؤسسات التي جرى إغلاقها، ويدعو إلى حوار استراتيجي.

 

على أن ما صرح به هنية لا يرقى إلى مستوى المبادرة، لكنه محل ترحيب بما ينطوي عليه من نوايا حسنة تستحق الدراسة بإيجابية، وربما يمكن اعتباره مؤشرات على مراجعة أجرتها الحركة، وتسعى من خلال هذه المراجعة إلى إدخال تعديلات أساسية على طريقة تعاملها مع الشأن السياسي الداخلي.

ولكن في الوقت نفسه ثمة ما يناقض هذه التوجيهات الإيجابية، حيث تستمر وتتصاعد لغة الاتهامات والتخوين والتجريم، وتستمر الاعتقالات والاستدعاءات للتحقيق، وتستمر سياسة تكميم الأفواه، وإغلاق مؤسسات إعلامية. مثل هذه التناقضات تزيد حالة الغموض غموضاً، ما يستدعي تنظيف الخطاب السياسي والمجتمعي، ومطابقته بالسلوك العملي على الأرض، ومغادرة منطق المكابرة والعناد، والرغبة في الانتقام.

إذا كان لنا من نصيحة في هذا الإطار، فإنني أنصح الإخوة في حماس بأن يقلقوا من انطلاق حركة تمرد فلسطينية، حتى لو كانت حركة شبابية مستقلة عن الفصائل. أما إن كانت مدعومة من فتح، وبقرار منها، فإن على حماس أن تقلق أكثر، وأن لا تعالج الأمر بحلول ووسائل أمنية.

لقد أكدت تجربة الأشقاء في مصر، أن امتلاك السلاح والقوة في مواجهة الإرادة الشعبية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من إراقة الدماء والكثير من الخسائر والتضحيات المجانية، دون أن تمنح مستخدم القوة أية مزايا أو مكاسب على ما يعتقد أنه حقق منها الكثير.

مرةً أخرى نحتاج إلى حوار استراتيجي جماعي، يفتح فيه الجميع قلوبهم وعقولهم، نزولاً عند المصلحة الوطنية، وبما يتيح المجال للإرادة الشعبية الحرة، عبر صناديق الاقتراع، لأن تقرر الأفضلية ولأن تساهم في صناعة الحل، الذي يجنب الشعب أثماناً ينبغي أن يتم دفعها في معركة الصراع مع الاحتلال، ومن أجل تقريب ساعة الحرية والاستقلال.

إن الكل خاسر في حال استمرار الانقسام، والكل خاسر في حال جرى اعتماد الحلول الأمنية والقوة في معالجة الأزمة.