قال لي صديقي من غزة: (الوضع لا يحتمل وهذه فرصة ذهبية ليس للتصيّد ولا للانتهازية ولا للحقد ولا لدفع الأمور للدمار وإنما فرصة حقيقية لرأب الصدع وإنهاء الانقلاب ووحدة الصف). وأقول: "قطعت جهيزة قول كل خطيب" كما يقول المثل العربي.

قال لي صديقي من غزة: ماذا كانوا يتوقعون من خطاب الرئيس أبو مازن؟ بُعيد غضبة القدس أو الهبة أو الانتفاضة؟ هذا السؤال تم توجيهه لعدد من المتابعين من السياسيين والإعلاميين وغيرهم فتفاوتت الإجابات كالعادة واختلفت نتيجة الخلفيات السياسية والفكرية لكل منهم ولكنها بغالبها كانت تراهن على تكراره لما جاء بخطابه بالأمم المتحدة.

اتفقنا معا نحن في غزة والضفة، لنقل أنا وصديقي على الأقل، اتفقنا على أن خطاب #غضبة_القدس، خطاب الهبّة، خطاب الرئيس في الرابع عشر من الشهر الجاري وقع كالصاعقة على رؤوس المتشككين وأولئك المخرصين، ولأكون واضحا فالقصد لا يطال المختلفين مع كل أو بعض سياسات الرئيس أو حركة فتح ما هو حق لهم ولنا، لا أبدا ليس هؤلاء المقصودين، وإنما المقصودون هم أولئك الذين لو اغتسلت أمامهم سبع مرات مما يرونه "النجاسة" سيظلون يشتمونك ويتهمونك ويفترقون عنك ويكفرونك علنا أو سرا.

قال صديقي في غزة: أنظر ما قاله الزهار من أيام أن لا مصالحة مطلقا لأننا بين برنامجين مختلفين لا يلتقيان أبدا؟؟، وأنظر ما قاله فتحي حماد أنه يسعي لاستتابة كوادر الاجهزة على يدي شيخ من عنده؟ وأنظر لما قاله يحيى موسى أنه سيعطيهم مفاتيح الجنة إن ثاروا على مسؤوليهم لا على العدو.

قلت له: لندع ذلك جانبا الآن فالحال حال توحد والنقد مؤجل، واستطردت: أن من أقصدهم هم في أي تنظيم ممن لا يفرقون أبدا بين ذات الشخص ومواقفه أو بين موقف وموقف ومسار الصراع، ولا يعون ويدركون المرحلة كما لا يعون معنى أدب الحوار وتقبل واحترام الآخر.

إن خطاب الرئيس لم يكن عند المتابعين بغالبهم حسب المتوقع أبدا، فلم يُدن ما توقع الاسرائيليون إدانته وافترضوه، ولم يقدم تنازلا ظنه الإسرائيليون واهمين أنه واقع لا محالة بل أكد عددا من المفاهيم الوطنية والدينية والتاريخية بشكل قاطع مانع آذت الاسرائيليين، وأحرجت المخرّصين كثيرا فطفقوا –أي المخرصين فينا- يغيّرون خطابهم من التخوين أو الشتم إلى المطالبة بالتطبيق أو التشكيك.

إن الصدمة عند المراقبين الذين راهنوا على التكرار أو الانحدار في خطاب الرئيس لما يعرفونه أو يتوقعونه هي أنهم بعد الخطاب اختلفوا إلى حد الافتراق كما قال صديقي من غزة في تحليله الشيق: فمنهم من رآه بداية لمرحلة ونهاية لمرحلة قديمة، ومنهم من لم يرَ –وقال: إنه لن يرى أبدا- في خطاب أو مسيرة الرئيس أي أمل ومثل هؤلاء هم الفكرانيون المؤدلجون والحاقدون، أما الطرف الثالث -وما زال صديقي يتحدث- فانتهز الفرصة وبدأ يحاول القفز والتدحرج أمام الرئيس بتقويله ما لم يقله، فوجّه هؤلاء سهامهم وأحابيلهم نحو الأجهزة الأمنية ليحشروها في مربع العسكرة للغضبة أو الهبة نافضين أيديهم هم من المسؤولية، وهؤلاء هم الفئة الأخطر التي اعتمرت الكوفية تزلفا وكذبا ونفاقا محاولة استجداء الأجهزة الأمنية (العميلة والخائنة –كما وصفوها نصا وبالأمس) أن تنتفض! فتعسكر #غضبة_القدس لتضحك هي بالبعيد دون أن تطلق رصاصة عكس تبنيها اللفظي للعمل العسكري، فإن لم تُصِب سهامها فهي على الأقل تُحدث الخلخلة والشرخ وهو أحد الأهداف المبيتة عند أمثال هؤلاء.

أضاف صديقي لتحليله هذا معلقا بالقول: نرجو ألا تكون هذه الفئة تتبع إستراتيجية المنافس/الخصم المعروفة بـ"الالهاء" عن تقصيرها الفاضح، و"الدفع" لإحراج الخصم بالركض أمامه بالشعارات الضخمة دون تطبيقها في مساحته، وهي استراتيجية أو حيلة نفسية لا تنطلي الا على البسطاء.

قلت له: بغض النظر عن تخوفاتك وتحليلاتك السياسية أو النفسية فإننا نراهن دوما على وطنية الشرفاء في التنظيمات كلها ومنها في حركة "حماس" ونتوجه لهم جميعا أن يمدوا أيديهم لحركة فتح التي ما زالت تفتح صدرها لهم، فيتغلبون ما استطاعوا على نوازع الحزبية الضيقة وافتراض الصواب الرباني المطلق والابتعاد عن البُعد الاقليمي الذي قد يأخذهم بعيدا عن فلسطين ليلتصقوا بالوطن، فالأوان أوان وحدة لا افتراق فإن لم يكن في مثل اليوم فمتى يكون؟.

صادق صديقي الفلسطيني الغزي على قولي معلقا: نعم (فالوضع لا يحتمل وهذه فرصة ذهبية ليس للتصيد ولا للانتهازية ولا للحقد ولا لدفع الامور للدمار وانما فرصة حقيقية لرأب الصدع وإنهاء الانقلاب ووحدة الصف).

إن الخطاب المهم للرئيس أبو مازن أعلن بوضوح انتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة كليا، أسس فيها للتكامل بين الداخل والخارج، ولضرورة تكامل الفكر النضالي بين تداخل تاريخي وديني مع الوطن، وتكامل أدوات النضال الميداني ممثلا بالمقاومة الشعبية (هو ينادي بها بالمناسبة منذ العام 2006) وليس منذ الآن، التي أطلق عليها في خطابه صفة الوطنية والبطولية مع النضالين السياسي والقانوني.

أقول: هل نرى فُرجة تُفتح في عقول البعض فلا ينجرفون بعيدا، ويرون الحق حقا ويتبعونه فيُعلون من مصلحة الوطن، ويضعون الخلافات السياسية والسلطوية والحزازات الفكرية والمناكفات الكلامية والأحابيل النفسية جانبا وينضمون إلى إطار منظمة التحرير الفلسطينية بغية الوحدة والعمل المشترك أم نظل ننتظر لحين وقوع صاعقة أو مأساة أخرى في الأمة تدمرنا وتغلق باب الأمل ؟