خاص-مجلة القدس/ لست من محبيالنقد الدائم ، ولا اعتقد أن كاتباً أو مفكراً أو أي شخص يمتهن النقد لذاته يستطيعان يحفر بئرا او يمهد طريقا للآخرين ، كما أن النقد في التنظيم السياسي أو الفكر أوالمجتمع عامة لا يعني تعدادا آليا للسلبيات دون ذكر أي مقومات ايجابية أو الإشارة لمكمنضوء من بيان ركام المهدّم.

افترض أن النقدبتعريف البعض ذاك الذي لا يرى إلا جبل السلبيات ويحفر فيه، وهو إن اتفقنا على تعريفهكذلك أم اختلفنا يجب أن يعني أيضا الأخذ باليد أو الإشارة لبقعة الضوء أو تصويب ماانكسر وليس ردحا أو شتما أو تكفيرا أو تخوينا أو اتهاما بالذمة أو الشرف مما يسهل تحميلهعلى ظهور الناس كأوزار من الصعب العودة لإنزالها.

 

وعليه فان النقدأرى أن يعني الكشف أو المكاشفة للجوانب السوداء في اللوحة متعددة الألوان (وليست البيضاء)في المهمة أو العمل أو المقال أو الخطاب ومقارنته وتصويبه، والاعتذار عنه من صاحبهكي لا يتكرر، فلا يكون الكسر مع الشخص نقدا أبدا ، ولا يجوز للسياسي أو الكادر التنظيميأن يتعامل مع النقد كأداة هدم أو أداة توبيخ أو أداة تشفٍّ، وكما هو حال بعض كادراتحماس في غزة اليوم.

 

إن النقد مقدرةعلى رؤية الصورة الكاملة بحلوها ومرها ، ومقدرة على تلمّس بواطن القوة والتسليط علىأماكن الضعف والخطأ والخلل ومحاولة إزالتها بأشعة الليزر أو المراهم أو بالأدوية وربمابالدعاء الصالح والحقيقي لله تعالى وليس التهكمي أو المعتقد انقطاع الأمل في المدعوله، كما أن ليس من النقد أن نقوم بقتل المريض أو بتر عضو من أعضائه، أو ذبح العفيّ.

 

ان النقد للكادرالتنظيمي ضرورة، وواجب، فهو يجعله يرى نفسه (أولا) على حقيقتها ثم الآخرين،لأن من يتمرسفي نقد الآخرين وينسى نفسه هو في طريقه لتسييد (الأنا) ما يجهله ينزّه الذات على حسابالآخرين.

 

لذا يرتبط النقدحكما بالنقد الذاتي، وعليه تمارس التنظيمات الثورية والسياسية والنهضوية والنضاليةالتي تبغي التغيير تمارس (النقد والنقد الذاتي) وتجعله بندا خاصا في جلساتها او اجتماعاتهاالدورية.

 

ان الخطأ والصوابفي الامور الحياتية والسياسية وفي معاش الناس نسبي ، فلا يوجد (باستثناء ما يقرره الدينوالقوانين والتشريعات بوضوح) خطأ مطلق أو صواب مطلق ، فما قد أراه صوابا تراه انت خطأاو تعطيه نسبة من الخطأ او الصواب.

 

قام احمد بإلقاءخطبة في مجموعة من الطلاب بالجامعة حول أهمية مقاطعة بضائع المستوطنات فصفقت له مجموعة، وتبرمت مجموعات فمنهم من رأى الدعوة غير كافية اذ يجب مقاطعة كافة البضائع الاسرائيليةومنهم زاد عليها الدنمركية والأمريكية ، والبعض رأى أن مقاطعة بضائع المستوطنات كلامكبير يحتاج لتحديد هذه البضائع بالاسم والعلامة والصورة وبجملة ابدأ بنفسك، وفئة رأتعدم وجود الارادة او الامكانية لمقاطعة منتج واحد مثل عصير (تبوزينا) الصهيوني فكيفنتمكن من المقاطعة لما هو أبعد؟!

 

إن هذه (وغيرها)آراء تأخذ أبعادا اجتماعية أو سياسية أو تنظيمية وشخصية، وهي نسبية ويجب ألا ينظر كلصاحب فكرة أو رأي لما يقوله على أنه مطلق أو الصواب الأوحد فتعدد الصواب أو البدائلأو الخيارات أصبح شيئا مفهوما ومتقبلا إلا عند ذوي القوالب الفكرية المصبوبة والفكرانيات(الايديولوجيات) التسلطية أو عند جهّال الناس.

 

إن التشبث بالصوابدون إمكانية زحزحة (رأيي على صواب يحتمل الخطأ ورأيك على خطأ يحتمل الصواب) يدخلنافي مربع التعصب الذي يؤدي لثلاثية التدمير: (التكفير أو/و التخوين أو/و التشهير) وعليهفان الآليات التنظيمية أو الشوروية أو الديمقراطية هي الحاكم في معظم مسائل تعدديةالرأي وليس الصوت العالي او الشتائم وليس لمن وضع على رأسه عمامة الأولياء أو (برنيطة)الأجانب.

 

في مثالنا عن المقاطعةللبضائع الاسرائيلية والآلاف مثله يتبين أن (التعددية) في الآراء أصل كما هو (خلقناكمشعوبا وقبائل) وكما هو (لنهدينهم سبلنا) وكما هو (ومازالوا مختلفين) والكثير من الآياتالحكيمة التي جعلت من التعدد أصل الوجود في الشكل والفكر والرأي.

 

وبما أن (التعددية)أصل فلماذا إجبار الناس على رأياً واحد أو فكرة واحدة لذا كان (الاجتهاد) رأي أو أكثرمقابل رأي أو أكثر فتشكلت الآراء، وظهرت (الديمقراطية) وكانت الفروع والأصول ، والأولوياتوالثانويات، ونشأت المفاهيم والعلوم. ولما استاء المتسلطون والحكام والأقوياء والجبابرةوالمستبدون من (المعارضة) أسقطوا على أنفسهم قدسيات متعددة مثل القدسية النابعة منالله (الثيوقراطية) أو قدسية الرأي الحكيم والسديد (لانتماء قبلي أو عشائري أو حزبي...)أو قدسية الأغلبية (الديمقراطية المستبدة) أو قدسية الدستور أو الصلاحيات، وكأن أيمن هذه ليست صنعا بشريا له آليات محددة - أو هذه يجب أن تكون – تصوغ العلاقة بين الحاكموالمحكومين أي بين الناس.

 

إن (الخروج) علىرأي الآخرين او أي الدولة الغالبة أو رأي السلطان كان يعد تمردا مذموما وثورة مرفوضةتقابل بالسيف والذبح، وبرغم أن الصواب قد يكون في أحد المعسكرين (أو في أجزاء من هناوهناك) فان تطور البشرية لتتقبل الخروج او التمرد او المعارضة باعتبارها حقا للمختلفينجاء بعد مئات السنين ومئات الحروب وما زلنا مختلفين كما يقول الله لتعالى.

 

ما نريد قوله أنالاختلاف والخروج والمعارضة أصبح حقا وله درجاته وأنواعه فالخروج ضد الاحتلال والظلموالاستبداد (على نسبية الفهم) أصبح في العصر الحديث مما يلقى قبولا ودعما فما بالكبالاختلافات والخلافات في نطاق البلد الواحد او الحزب الواحد أو البيت الواحد.

 

إن الحوار أداةتنظير من جميع المختلفين يعلون من شأنها وقد لا يطبقونها، حيث أنه حين تصطدم أفكارهمالعالية أو السامية أو المقدسة بمعارضة شديدة خاصة وهم بالحكم لا يجدون بدا من استخدامالسيف ضد مخالفيهم وبتعليلات عدة، وعندما يكونون في وضع الضعف تظهر المظلومية وتضخيمالتضحيات وكأن لا أحد غيرهم عانى اضطهادا أو ذاق مرارة، وان كان ذلك رد فعل طبيعي للمظلومفان ما يثير العجب أن يمارس المظلوم حين التمكين نفس أساليب من ظلمه دون وازع من دينأو ضمير لأن السلطان طغيان.

 

لذا فان الإيمانالصارم بالحوار بشقيه الأول حرية القول والتعبير وثانيه الالتزام بين المتحاورين يستدعيهنا النقد وضرورته ما نقول أنه يوجب دوما أن يتمتع الشخص أو الكادر بعقلين معا هماالعقل الناقد من جهة والعقل المبدع من جهة أخرى، فلا قيمة لدى كادر السياسة أو التنظيمأو الكادر المجتمعي عامة لأن يمتلك زلزالا مدمرا من النقد قد يقلب الطاولة ان لم يكنبيده اليمنى سرية متكاملة من الحلول والإبداعات.

 

إن النقد في المجتمعوالسياسة والتنظيم عامة، وفي ظل الخلافات والرؤى المتعددة خاصة ظاهرة صحية وليست سلبيةفهي اذ تظهر ما لم يلمسه المختلفون تستطيع أن تقرر البدائل وتستطيع أن تضع الأصبع علىالجرح ، وهي آلية علاج مطلوبة ضمن آليات محددة ما دامت تبغي التصويب لا الهدم، وتبغيالتغيير لا السحق للآخر.