لم تنفع خطابات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي النارية ، وسياسة القبضة الحديدية التي يمارسها في العراق من اندحار جيشه المخزي أمام المسلحين الذين استولوا بسهولة مذهلة على ثاني أكبر المدن في العراق وهي مدينة الموصل التي يقطنها أكثر من مليون ونصف المليون نسمة.

شكّل سقوط الموصل ثم مدينة تكريت ومدن أخرى ضربة قاصمة لحكومة المالكي، وما تميزت به من (سياسات رعناء) كما وصفها السيد مقتدى الصدر ما لا يختلف فيه معظم خصومه، لاسيما وأنه يوجه طائراته ودباباته ضد المدنيين وقصفهم عشوائيا ليس منذ اعتصام الأنبار العام، وليس اثر اقتحام ساحة الكرامة في مدينة الرمادي ، وإنما منذ وقوفه المتصلب والمتشدد في وجه الحراك الشعبي في العراق الذي تزعمته المحافظات الستة المنتفضة منذ جمعة العزة والكرامة في 28/12/2012 ضد ظلم الحكومة وخداعها كما صرح المتحدث الرسمي باسم "الحراك" الذي لقبه المالكي "بالفقاعة النتنة" .

إن سقوط الموصل شكّل صدمة للحكومات في المنطقة سواء تلك التي راهنت على المالكي أو تلك المتبرمة من سياساته الى الحد الذين وصل بالرواية الرسمية العراقية، وهي الرواية الأكثر شيوعا بالإعلام العالمي حتى الآن لاتهام كل مخالفيه بأنهم (ارهابيون) اذ لم يستطع المالكي التمييز أو لا يريد بين (الدولة الاسلامية في العراق والشام) وبين (المجلس العسكري العام لثوار العراق) بمعنى أنه جمع كل خصومه السلميين والعسكريين في سلة (الارهاب) ولكن السقوط المريع للمدن واستسلام أو هرب قواته قد فتح الباب على مصراعيه للتشكيك برواية الحكومة العراقية وسياسات المالكي الخرقاء حسب خصومه.

قال اللواء الركن حسام الدين الدليمي عضو "المجلس العسكري لثوار الأنبار" أن (الثوار قادمون الى بغداد الرشيد والتحرير قادم ) وأشار على قناة بغداد أن الهدف هو جيش المالكي، وسبب الثورة التي أطلق عليها اسم (الثورة العراقية الكبرى) هو مذابح المالكي وتصرفاته الطائفية، وتأتي أيضا استكمالا لثورة المحافظات الشمالية العراقية ذات الطابع السلمي ما اكده الحزب المقرب من طارق الهاشمي.

لم يمر القصف المستمر حتى اليوم (168 يوما حتى اليوم الموافق 14/6/2014) لمدينة الفلوجة مرور الكرام ، كما لم يمر اقتحام الرمادي والاعتصامات الجماهيرية المليونية المختلفة التي اجتاحت العراق مرور الكرم، وكانت النتيجة هي (الثورة) كما أشار رئيس الحزب الاسلامي في العراق الممثل في البرلمان الذي يرأسه حاليا إياد السامرائي خلفا لأسامة التكريتي وطارق الهاشمي..

يصر محللون آخرون أن المؤامرة اقليمية ضد العراق فالمحلل السياسي هيثم الجبوري يرى في الأحداث الأخيرة مخططا لتوسيع كردستان ، وهدفا لتركيا لمد نفوذها ،وفي التآمر كما أسماه على العراق تحقيق أهداف (اسرائيل) في المنطقة.

صمتت عديد القنوات الدينية في العراق عن الاصطفاف ووقفت قنوات أخرى (تمثل تيارات محددة) مع الرواية الرسمية بينما انفردت قناتا (الرافدين) و (بغداد) بالرواية المؤازرة (للثوار) كما أطلقوا عليهم ما يدلل على حجم الاختلاف الكبير في ظل انقسام البلاد، الى أن أفتت المرجعية الشيعية المتحالفة مع نوري المالكي بالأمس بالجهاد الكفائي ضد الإرهابيين.

هل ما تفعله طائرات المالكي ابادة جماعية ضد المدنيين في الموصل؟ كما يقول النائب في البرلمان العراقي محمد اقبال ؟ أم أنه في حرب (الارهاب) يصبح التمييز مشوشا ما يغفر فيه قتل المدنيين ؟ .

(هيئة علماء العراق) نفت في بياناتها المتلاحقة أن ما يحدث في الموصل ارهابا وإنما هو (تهاوي لقوات المالكي وأجهزته الأمنية أمام ضربات الثوار) ،وما يحصل حسب المتحدث باسم الحراك الشعبي في العراق كما تحدث على قناة بغداد (11/6/2014) هو حرب ضد ظلم الحكومة وخداعها ما وافقه فيه الشيخ درّي الدليمي مشرف الاعتصام في محافظة صلاح الدين.

مجلس النواب العراقي الذي لم يستطع أن يلتئم لإعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد سقوط الموصل وتكريت وغيرها تخلف 128 نائبا فيه عن الجلسة رغم تشدد رئيسه أسامة النجيفي (شقيق محافظ البصرة أثيل النجيفي) كما المالكي الذي وصف ما يحصل في الموصل أنه (غزو) قادم من خارج العراقي ومن قبل الارهاب من مختلف الدول.

لم يتورع الكثير من القيادات العراقية من إدانة سياسية المالكي وعلى رأسهم إياد علاوي ومقتدى الصدر ، ومنهم أيضا الدكتور الشيخ عبد الملك السعدي الذي أدان قصف جيش المالكي للموصل وغيرها بالطائرات والبراميل المتفجرة واصفا ما يحدث بأنه (حرب) (الهدف منها التصفية الطائفية والتهجير القسري) ومؤكدا ان داعش مجرد شماعة لذلك . بينما رأى آخرون كما أوردت قناة الرافدين أن (الثورة هي ضد الارتهان الحكومي لإيران ومن أجل تحقيق الحرية والعدالة).

من الواضح في سياق الأحداث أن هناك إجحافا واضحا وإحساسا بالظلم الشديد منذ زمن طويل لدى فئات في الشعب العراقي (غالبا ما يشار اليهم بالسنّة في المحافظات الشمالية الستة) من سياسات المالكي ، كما بات واضحا لدى كثير من المحللين أن (أثيل النجيفي) محافظ الموصل ذو النزعة الطائفية سعى لإضعاف المركز بالتحالف مع البرزاني في مصلحية بين أمراء الحرب ما أدخل داعش المنطقة، كما يرى المحلل السياسي العراقي قاسم موزان على غرار اتفاق قطر مع القاعدة.

في سياق المطالبة برفع الظلم وتحقيق العدالة من خلال ثورة العراقيين على حكومة المالكي ، أوصراع حكومته مع إرهابيي "داعش" يبرز زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في موقف متميز اذ بعد إدانته لما يحصل في الموصل من ما اسماها (مجاميع خارجية) ودعوته ل(كتائب سلام) للحفاظ والدفاع عن المقدسات الا أنه -وهنا تميزه- يرفض زج ابناء العراق (بحرب قد زجنا بها بعض ذوي السياسات المنحرفة) يقصد المالكي، كما ورفض أن يخوض (معركة عصابات ومليشيات قذرة لا تميز بين الارهابي وبين الخائف منهم وطالب الخلاص)، وما يؤكد اتجاه الرجل الجديد-بعد خوضه عام 2006 الحرب الطائفية- نحو الوحدوية بعيدا عن الانخراط في اللعبة الطائفية أو السياسية القذرة ما كان قد أعلنه في وقت سابق المتحدث باسمه صلاح العبيدي حين قال رافضا ولاية نوري المالكي الجديدة معتبرها خطا أحمر ، ان (الساسة الشيعة اذا كانوا غير قادرين على الاحتفاظ بمنصب رئيس الحكومة فليذهب الى من هو قادر على الاحتفاظ به) .

ولم يكن خافيا موقف مقتدى الصدر الصلب في مقولته ضد المالكي (اعوذ بالله من نفس لا تشبع) مما يسميه (الظلم) والابتعاد عن (التسامح والوحدة) متهما نوري المالكي بذلك وبخرق حقوق الانسان وعدم مشورة علماء الحوزة في كلمته له في 1/1/2013 ، وأنه لا يستمع للمطالبة الشعبيه مطلقا وأنه أهدر مقدرات العراق ونفطها ووحدتها، وأنه يقيد مخالفيه ويقصيهم ويصالح الارهابيين ، ويعادي الشعب ويلعب على الطائفية وأنه دكتاتور ولا يسعى إلا للكرسي ويعيق العدالة والحقيقة فأبعد الجميع عن التشييع المتسامح فعادى الجميع العراق وجعل العراق (مسخرة).

لم يحارب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عسكريا وسياسيا من يسميهم الارهابيين الذين وضعهم في سلة واحدة رافضا الاعتراف بفشل سياساته، وإنما أقدم على خطوة اعلامية كبيرة أبعد إذ أغلق محطات تلفزية ومواقع (تويتر وفيسبوك ويوتيوب) للتواصل الاجتماعي لتحريضها ضده بعد سقوط الموصل، وكيف لا يفعل ذلك وأكثر من ربع مليون شخص دخلوا لصفحة (الثورة العربية الكبرى في العراق) خلال يومين فقط معلنين إعجابهم ، وأكثر من 150 ألف أعجبوا بصفحة عزة ابراهيم الدوري أبرز قيادات حزب البعث المنحل.

تقف اليوم في العراق عدد من الهيئات (غير الملتحمة معا) مناهضة للمالكي بشدة مثل تيارات كل من أسامة النجيفي رئيس البرلمان، وكتلة إياد علاوي، وأيضا السيد عمارالحكيم والسيد مقتدى الصدر وكلهم من المذهب الشيعي-رغم رفضنا المطلق التقسيم السياسي على هذا الأساس الخاطيء- وتواجه 5 تنظيمات أوتشكيلات متحدة جيش المالكي في الموصل وتكريت هي (هيئة علماء المسلمين) برئاسة الشيخ د.حارث الضاري الذي كان قد أشار لل"حراك" ضد المالكي في فبراير 2014 واصفا إياه بالثورة الشعبية ضد ظلم واستبداد المالكي، وهي الهيئة التي رحبت علنا بالثورة والثوار في الموصل وتكريت، وتصدر البيانات المطالبة بحسن التعامل مع الجماهير،وثانيا مجلس العشائر، وثالثا قيادة الحراك الشعبي في العراق المستمر منذ عامين، وبالتأكيد قيادات من حزب البعث العراقي والجيش تضع في الواجهة عضو مجلس قيادة حزب البعث فترة صدام عزت الدوري في المقدمة هذا رابعا، أما خامسا فلا شك أن (داعش) لها دور أيضا على قلة أعدادها ما يستدعي ضرورة الالتفات لحقيقة مطالب المحافظات الست التي أهملت اهمالا كاملا في مقابل إشعال حزب المالكي لنار الطائفية أو استغلاله لها ما رفضه معظم ساسة العراق من كافة المذاهب والنِحَل.

إن رواية الحكومة العراقية ومعظم وسائل الاعلام عن التصدي لإرهاب (داعش) نظرة قاصرة وتبسيطية أو مقصودة، ولا تعبر في حقيقة الأمر –هذا الأمر فائق الخطورة- الذي يجري لتقسيم العراق طائفيا، وكما لا تعبر عن حقيقة ما يجرى من حراك مناهض إذ أنه ليس "فقاعة نتنة" كما وصفه المالكي تبخيسا وتصغيرا واحتقارا، وليس "إرهابا داعشيا" فقط، وليس احتجاجات وجدت ضالتها بالتحالف مع الشيطان، إذ ربما يكون كل ذلك مع تقاطعات ذات دلالة جد خطرة مع دول المنطقة ومصالحها، وما يستدعي من كل العراقيين ونحن العرب عامة سرعة التحرك لانقاذ بلدنا العراق من أسر السياسات التدميرية قبل أن نصحو على 3 أو 5 عراقات كما يحصل في ليبيا وفي سوريا اليوم ودول أخرى.