معروف للجميع أن الاستيطان بمعناه العدواني والسلبي الشامل، كان وما يزال من الأفكار والقواعد المؤسسة لدولة إسرائيل مثلما كان فكرة وممارسة طلائعية لدى الحركة الصهيونية وقادتها الأوائل، وقد استمر العمل قبل الؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897، وما بعده، لتشريع كل الوسائل للاستيلاء على أرض الشعب الفلسطيني بأساليب متعددة، تارة عن طريق استخدام النص الديني الملتبس كما في خرافة الوعد الإلهي، وصولاً إلى الأموال أمام الانهيار المتدرج للدولة العثمانية وكان المليونير اليهودي البريطاني اللورد روتشلد صاحب باع طويل لدى الأتراك ولدى البريطانيين بعدهم، بل لقد استخدمت الحركة الصهيونية وأداتها الوكالة اليهودية ومن ثم دولة إسرائيل بعد ذلك، كل ما لا يخطر على البال من أجل تعميق حركة الاستيطان وجعلها العمود الفقري للنشاط السياسي والعسكري، ابتداء من مذابح الطرد والتهجير القسري للشعب الفلسطيني، وإنكار وجوده أصلاً، وترويج مصطلحات سياسية عجيبة مثل مصطلح "الأرض المتنازع عليها" بعد احتلال الضفة والقدس عام 1967، بل إنه لا يوجد أسلوب من أساليب العدوان والعربدة، أو أساليب الغش والخداع والتزوير، والعودة إلى القوانيين البائدة مثل قوانين الاحتلال البريطاني أو الدولة التركية إلا وتم استخدامه لتحويل الاستيطان إلى فعل يومي مستمر.
ولكن هذه المرحلة الحالية في حياة إسرائيل تصل إلى ذروة التوحش الاستيطاني، لأنه مع مزيد الانحدار في المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف سواء على الصعيد الديني أو الفكري أو السياسي، فإن عناصر الاستيطان أنفسهم أصبحوا هم قادة إسرائيل، أصبحوا هم القادة في الجيش، والوزراء في الحكومة بل أصبح هؤلاء المستوطنون هم الجسم الرئيسي في حكومات نتنياهو، والحكومة الحالية على وجه الخصوص، وبينما كان قادة سياسيون إسرائيلون يلعبون لعبة الاستيطان لمضاعفة نفوذهم السياسي، أو كأداة للحصول على أصوات المستوطنين في الانتخابات، أو لاكتساب بعض المكاسب المالية من خلال تضخيم المخصصات المالية للاستيطان، انقلب الوضع تماماً، فأصبح قادة الحكومات ونموذجهم الأوضح نتنياهو هم الأدوات العمياء في يد الاستيطان بكل رموزه.
الآن، إسرائيل تعيش في دائرة مغلقة، الكل داخل قوقعة التطرف، والعمى العنصري، والجنون الاستيطاني، لا صوت يعلو خارج هذه القوقعة التي تعيش ضد قوانين التاريخ، وضد المزاج الدولي المتغير، وضد مصالح الجميع بما فيهم حلفاء إسرائيل نفسها، وكان آخر التفاصيل في إنغلاق هذه الدائرة هو انتخاب رؤبين ريبلن رئيساً لدولة إسرائيل، وبالتالي فقدت إسرائيل أي مساحة على صعيد القرار السياسي يدخل منها ضوء ولو بسيطاً يخترق جدار هذه الدائرة المغلقة، وهذه القوقعة الصماء، ولذلك فإن إسرائيل تندفع أكثر وأكثر نحو الصدام العنيف، نحو التفجير الشامل، لأنها أصبحت عاجزة بالمطلق عن التعامل مع أبسط الحقوق الفلسطينية ومع أبسط المتطلبات الفلسطينية، وأخطر دليل على ذلك أن إسرائيل التي ظلت لسنوات تشكك في أهلية التمثيل الفلسطيني، تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد عودة الفلسطينيين إلى القاعدة الأصلية وهي القاعدة التي تجسد الوحدة الوطنية والمصالحة وإنهاء فصل الانقسام الأسود.
فلسطينياً، نحن نعي هذه الحقيقة، ونتابعها ونشتبك معها على مدار اليوم والساعة والدقيقة، وبسبب وعينا بهذه الحقيقة، فأن إسرائيل انحدرت إلى مرحلة الدائرة المغلقة، فإنه أصبح من أول الأولويات ومن أقدس الضرورات أن نعيد صياغة أدواتنا النضالية، على صعيد الإطارات التي يجب إعادة بنائها، وعلى صعيد المعايير التي تحكم حياة هذه الإطارات على اعتبار أننا في مرحلة اشتباك حتمي مع هذا الانغلاق الإسرائيلي الحدي القائم على قواعد العنصرية والعربدة والعدوان، يجب أن تتطور الأداة النضالية بما يتلاءم مع طبيعة المعركة ومعطياتها واحتمالاتها المتوقعة، وفي هذا الإطار يجب النظر إلى المؤتمر العام السابع لحركة فتح الذي تجري التحضيرات لانعقاده في موعده، والانتخابات التشريعية والرئاسية التي تعد العدة لإجرائها، ونرجو أن يكون الجهد بمستوى الهدف، وأن تكون النتائج بمستوى القصد النبيل.