يجب الانتباه الشديد لما يجري في إسرائيل، حيث كل شيء يتكشف بشكل حاد، والأسئلة تطرح بلا هوادة، والنصوص التي كان يبدو أنه متفق عليها يتم تمزيقها بقسوة في ظل جنون الاستيطان، وعربدة السلوك اليومي ضد الشعب الفلسطيني، وصعود موجة الفاشية العنصرية ممثلة ليس فقط بمجموعات تدفيع الثمن، بل بالسلوك المثير للاشمئزاز من أقطاب التحالف الحاكم مثل نفتالي بينيت من البيت اليهودي، وأفيغدور ليبرمان من "إسرائيل بيتنا" وسلفان شالوم وزلمان شافال من الليكود وعلى رأس الجميع بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الذين يهربون من الحقائق الصاعدة إلى اطروحات بداية تأسيس الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، وهي أطروحات تشتمل على نصوص مغلقة ومتناقضة إلى حد التدمير الذاتي، يهودية الدولة، وتجنيد المسيحيين الفلسطينيين في جيش الاحتلال، الإحجام عن تنفيذ الاتفاق الخاص بإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين ما قبل أوسلو وقانون يقضي بعدم الإفراج عن أي أسير فلسطيني، معايرة الشعب الفلسطيني بالانقسام والتهديد بعقوبات تصل إلى حد إعلان الحرب رداً على المصالحة الفلسطينية، الاستمرار في معزوفة الشكوى من الإرهاب واستقبال الجرحى من المصابين من أفراد الجماعات الإسلامية المحاربة في سوريا وعقد دورات تدريب لهم، رفض قاطع لما يوصف بأنه اجراءات أحادية من الجانب الفلسطيني والإقدام على تنفيذ كل ما هو أحادي الجانب في الإجراءات الإسرائيلية، إلى أين ينتهي ذلك كله؟
يجب أن نعود إلى الوراء إلى مؤتمر تأسيس الصهيونية في مدينة بازل بسويسرا قبل مئة وسبعة عشر عاماً، لقد نجح هرتزل وزعماء الحركة الصهيونية الأوائل في استثمار كل الحقائق السياسية في ذلك الوقت، ضعف الإمبراطورية العثمانية التي كانت ترزح تحت ثقل الديون، وكثرة الاحتياجات، فظهرت في ذلك الوقت بدايات حركة الاستيطان، واستندت الحركة الصهيونية في ذلك الوقت على ركيزتين وهما ادعاء أن المسار اليهودي هو فوق التاريخ، ضد التاريخ، وأن فلسطين التي يتجه إليها الهدف الصهيوني هي أرض بلا شعب، وأن هذا الشعب الفلسطيني يجب إنكاره من خلال إخراجه من الجغرافيا وبعثرة هويته والاتفاق ضده حتى ولو مع الشيطان نفسه.
وعندما قامت دولة إسرائيل بناء على قرار التقسيم الذي تجاوزته منذ اللحظة الأولى، حصلت على دعاية من أصحاب المشروع الأصليين الأوربيين والأميركيين، تصل إلى حد الأسطورة، فكل ما حصل من تواطؤ وجرائم شبيهة بجرائم النازية وضعت له عناوين مزورة، عناوين التفوق والعبقرية، بل إن بعض فلاسفة ذلك العصر مثل جان بول سارتر لم يجد مرتكزات لفلسفته الوجودية "الاختيار والثمن" إلا في عبقرية المسألة اليهودية، واستمرت صناعة الأسطورة بلا حدود، تواطؤ الأقوياء بفعل كل شيء بينما الدعاية تذهب لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية، بلفور البريطاني يعطي وعداً لروتشيلد اليهودي، ويتم التركيز على عبقرية روتشيلد وليس على بلفور الذي كان يمثل زعيمة الاستيطان القديم الإمبراطورية البريطانية، وجيوش الحلفاء تشكل فيلقاً يهودياً ولكن الدعاية تذهب إلى حاييم وايزمن، وهزيمة عام 1967 هي صناعة غربية مئة في المئة ولكن الأسطورة تجنح إلى موشيه دايان والجيش الذي لا يقهر، أهداف المستوطنين والإمبرياليين بعد ذلك يتم تنفيذها تحت عنوان عبقرية النص الإسرائيلي، حتى أتى "نعوم شومسكي" المفكر اليهودي الأميركي يقول " ما من وفد إسرائيلي ذهب إلى الولايات المتحدة يطلب مالاً أو سلاحاً إلا ومنحوه أكثر مما كان يطلب"، بل إن كل السلاح يصنعه الأميركيون لا بد من أن يعطى أولاً للجيش الإسرائيلي لتجريبه في أهداف حية قبل اعتماده في الجيش الأميركي نفسه، وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت تجربة "الكيبوتس" في إسرائيل تصل إلى ذروة الدعاية ليتضح بعد ذلك أنها كانت نموذج الفساد والفشل، وهلم جرا.
لكن الزمن يتغير، والتاريخ يتقدم ويتطور، ولا أحد خارج التاريخ، ولا أحد فوق التاريخ، وهذا هو مأزق النص الصهيوني الآن، أنه لم يعد نصاً ملفوفاً بالأساطير المقدسة، إنه نص يخضع لمعايير الواقع، أنه مكشوف، فإذا به نص عاجز، منكفئ، لا يمكن أخذه على علاته مسلماً به بلا نقاش مثلما يفعل غلاة البروتيستانت مع نصوص العهد القديم، فكل شيء قابل للنقاش، يغري بالنقاش، يخضع للفحص والتدقيق، ويسلط عليه ضوء المصالح المتعارضة، وهذا هو مأزق النص الصهيوني الآن، فلا يمكن انكار وجود شعب ستة ملايين منه يعيشون في أرضه الأصلية وهي أرض فلسطين التاريخية، وهو الشعب الفلسطيني، وستة ملايين آخرون يعيشون في الشتات القريب حول فلسطين وفي العالم، وهم اللاجئون، وجميعهم يمكن اعتبارهم ناشطين سياسيين من الدرجة الأولى في حقل القضية الفلسطينية.
لم يعد النص الصهيوني قادراً على التعايش مع المتغيرات والحقائق الجديدة، النص الصهيوني عاجز عن استيعاب أي شيء، لم تنفع سياسة الجسور المفتوحة، ولا تجدي الآن سياسة الجسور المغلقة، النص الصهيوني نص مغلق حتى الاختناق إنه يخاف من الاعتراف، وانظروا ماذا حل باتفاق أوسلو، وماذا حل بمبادرة السلام العربية التي اتسعت وأصبحت إسلامية، والتبادل الدبلوماسي مع عدد من الدول العربية ودول المنطقة، إنه نص خارج التاريخ ولذلك فهو مهدد بالهزيمة الكاملة، بينما النص الفلسطيني واقعي وجزء عضوي من الحقيقة التاريخية وكذلك فهو رغم اختلال موازين القوى يصعد تدريجياً.
اعتقد أن العالم بما في ذلك أكبر أصدقاء وحلفاء إسرائيل قد تعبوا من حمل أعباء هذا النص الصهيوني المغلق، لأن حوافزه الأولى لم تعد موجودة، لأن استثماراته الأولى لم يعد لها لزوم، فهل إسرائيل في ظل القيادة الحالية قادرة على التغيير؟ قادرة على الانقلاب على نفسها؟ أم أنها ستحاول من جديد الهروب إلى جرعات الدعاية المبالغ فيها والأساطير التي لم يعد لها مكان؟ هل نرى إسرائيل تذهب إلى حرب جديدة طاحنة تعيد لها البريق والخصوصية والاستعلاء على التاريخ أم تدخل إسرائيل في حرب مع نفسها حين يتصاعد الانفجار بين مصالح المستوطنين وضرورات الدولة الإسرائيلية؟