فتح ميديا-لبنان/ خاص مجلة القدس

حيثُالشمس تودع البحر ساعة الغروب، وحيثُ يحلو شرب فنجان القهوة في الصباح، فيما تحلق الطيوربين زرقتي الماء والسماء، حطَّت مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين رحالها بعد نكبة عام1948.

 تتمنى لو أنَّك تعيش بين أحضان هذا المشهد، لكنَّكحتماً عندما ترى الصورة كاملة ستعرف أنَّ هذا كله ينطبق عليه مقولة "محسودٌ مماأنا شاكٍ منه"، على الأقل بالنسبة لسكان هذه البقعة الجغرافية الصغيرة والتي يُطلَقعليها إسم تجمع جل البحر للاجئين الفلسطينيين، حيثُ تتمثل الحياة بمنازلَ مسقوفةٍ بألواحمن "الصفيح" لا تقي حرارة الصيف ولا برد الشتاء، وجدران تروي حكاياتٍ لمنقرأ عنها من قبل.

تحقيق/ سمية مناصري

لتسربالمدرسي وتهميش التعليم

 في تجمع جل البحر لا وجود للمدارس أو حتى رياض الأطفال،ما يضطر الأطفال للذهاب إلى المدارس المتواجدة في مخيم البص، ومواجهة مشقة الوصول إليها،فيما معظم الأهل غير مبالين بتعليم أطفالهم، إذ يوجد عدد لا يستهان به من غير المتعلمينفي التجمع. أمَّا إذا ما حاولت سؤال طفلٍ عن سبب عدم ذهابه إلى المدرسة بادرك مجيباً:"عندما أكبر سوف أسافر خارج لبنان!".

كذلك فبعض الأهالييعزفون عن إرسال أبنائهم إلى المدارس لعدم قدرتهم على تأمين كلفة المواصلات، فينزلالأطفال إلى الطريق ليصبحوا متسربين من المدرسة.

 فالطفل "محمد" مثلاً لم يتجاوز العاشرة من عمره. ترك الدراسة وهو لا يعرفكتابة اسمه، فقد كان يقصد مدرسته كلَّ يومٍ وفي يده سيجارةٌ بدل القلم. وهو يقضي يومهبالسهر في الليل والتنزه ما بين الشارع والبحر، واشباع هوسه بشرب النرجيلة، بعد فشلهفي محاولته لتعلم صنعة الميكانيك.

وما يزيد المشكلةتعقيداً، غياب أيَّة جمعية تساعد في التدعيم الدراسي كما هو الحال في باقي المخيمات،أو حتى نوادٍ للترفيه، فمتنفس الطفل الأول هو الطريق التي توفي عليها أكثر من طفل وهمفي طريقهم إلى المدرسة ما ترك بصمة سوداءَ في نفوس أهالي هؤلاء الأطفال تلازمهم مدىالحياة.

  وعن هذه الذكريات المؤلمة يتحدث الحاج أبو سامرفيقول: "إبني كان في الصف الخامس ولم يكن لدي المال الكافي لتأمين وسيلة نقل لهمن البيت إلى المدرسة. وفي أحد الأيام دهسته إحدى السيارات وهو في طريقه إلى المدرسة،ولم أكد أصل إلى البيت حتى أخبرني أحد الجيران بالحادث، فذهبت إلى المستشفى كي أطمئنعليه، وعندما رآني نطق بكلمة واحدة "بابا" وبعدها فارق الحياة. حقاً لقدكانت صدمة لي ولأمه وإخوته، وصحيح أنّ سبعة أعوامٍ مضت على وفاته، ولكنَّ حزننا عليهسيلازمنا مدى الحياة. حقاً الشارع هنا ما هو إلا مصيدة للأطفال!".

بينفكي كماشة الغرق

أمَّا المتنفسالثاني للأطفال فهو شاطىء البحر حيث تكون سعادتهم في قمتها خلال فصل الصيف، وحين يأتيالشتاء لا يجد الطفل بديلاً آخر سوى بيته المؤلف من غرفة واحدة يعيش فيها أكثر من ثمانيةأشخاص، وذلك لأنَّ حال جل البحر كحال بقية المخيمات يُمنع فيه البناء ولو سراً. فستُعائلات تضررت منازلها العام الماضي في فصل الشتاء عقب إحدى العواصف الشديدة التي ضربتجنوب لبنان، وحتى الآن لم يتم إعمارها. وفي هذا السياق علَّق أحد المتضررين من المشكلةقائلاً: "تهدَّم بيتي السنة الماضية إثر عاصفة شديدة والآن أعيش في منزل بالإيجار،ورغم تكفّل الهلال الأحمر القطري بالتعاون مع الأونروا بإعادة بناء منزلي، فهو لغايةالآن لم ينتهِ. ولن اشعر بإرتياح إلا عندما أنتقل أنا وأفراد أسرتي إلى منزلنا الأصلي".

 ويعتبر جل البحر من أكثر الأمكنة تضرراً بالعواصفالشتائية، فهو معرضٌ من جهة الغرب لغضب الأنواء البحرية، فيما تتهدده مياه الشارع وخطرانزلاق السيارات التي اجتاحت عدداً كبيراً من المنازل القريبة من الطريق من شرقه.

 وفي هذا الصدد تقول الحاجة أم سليمان: "منذحوالي الشهرين وفيما  كنت أحضِّر وجبة العشاءلأولادي،  سمعتُ صوتاً قوياً فحسبته صاروخاًلشدة ما تصاعد من غبار، ولم أعرف وأولادي العشرة ماذا نفعل أو إلى أين نذهب من شدةالرعب والخوف. وبعد أن حضر الجيران تبين أن الصوت صادرٌ عن إحدى السيارات التي كانيقودها أحد الشبان الصغار بسرعة جنونية. غير أنَّني منذ ذلك الوقت أعاني من ألمٍ شديدفي ظهري بسبب الصدمة، هذا عدا الحالة النفسية التي أُصيب بها إبني الصغير ذو السنواتالسبع، فبقي حوالي شهر مصدوماً. لذلك نطلب من كل المعنيين أن يأمنوا الحماية لهذه المنازلولأطفالنا كي يشعروا بالأمان، وأن ينظروا في مشكلة مياه الشارع التي تدخل المنازل".

هذا وكان قد تمَّبناء ساتر من الإسمنت مواجه للبحر لحماية المنازل من الأمواج، ما جعل أهالي جل البحريتساءلون حول مدى قدرة هذا الساتر على حماية المنازل من زحف أمواج البحر ومشاركتهاالأطفال النوم على فراشٍ واحدٍ أثناء الليل، تاركين الإجابة عن تساؤلاتهم لفصل الشتاء.

فإلى متى ستستمرمعاناة الأهالي في تجمع جل البحر، وهل من منقذٍ لهم من تداعيات تهميش الدراسة والتوغلفي ظلمات الجهل؟ أم أنَّ مسلسل المآسي سيستمر ويمتد لتستمر أزمة غياب المدارس وليبقىجل البحر محاصراً ما بين المياه التي تغسل الشوارع المحيطة وتتجمع لتدخل المنازل دوناستئذان من جهة، ومياه البحر الهائج من جهة أخرى؛ فيقع بين فكَي كماشة الغرق.