منذ إنشائها تقوم قناة "الجزيرة" الفضائية بدور سلبي في التعاطي مع قضايا الأمة العربية، وهذا ليس غريباً لأنها تمثل مثلث مصالح معاد له ثلاثة أضلاع متوافقة من حيث المبدأ وهم: الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وحركة الإخوان المسلمين. فكان همها الأكبر تعهير كل الاتجاهات الوطنية العلمانية في العالم العربي، والتزمير والتطبيل لصنيعة الاستعمار وأداة هدم الوحدة الوطنية في كل قطر عربي والوحدة القومية العربية، التي تعاني مشكلات وتصدعات أصلاً، الحركة الإسلامية وحركة الإخوان المسلمين بشكل خاص.
وبطبيعة الحال حظيت قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية بنصيب الأسد من محاولات التشهير والتشويه، خصوصاً في ظل الصراع بين المنظمة وحركة "حماس" التي تعود في أصولها ومرجعياتها إلى حركة "الإخوان المسلمين" الأم. فكل ما قامت به المنظمة منذ تأسيس "الجزيرة" وحتى يومنا هذا هو مشكوك بوطنيته واستقامته وشعبيته وكل ما قامت به حركة "حماس" حتى بانقلابها الدموي الإجرامي الذي فاق بشاعة جرائم الاحتلال هو مشروع ومقاومة وبطولة، وتصدٍ للخونة والمستسلمين والمتخاذلين.
والبحث عن تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس المرجعيات العربية والدولية مرفوض وتنازل مجاني للاحتلال، ووقف اطلاق النار وحماية المواطنين من أذى الاحتلال والاهتمام بحاجاتهم ومصالحهم اليومية والاستراتيجية هو خيانة وعمالة للاحتلال، بينما المشاريع السياسية المشبوهة كالقبول بالأمر الواقع والتقاسم الوظيفي مع الاحتلال، ووقف اطلاق النار المجاني والتنسيق الأمني السرّي وعَبر الوسطاء والوكلاء هو من أعمال المقاومة البطولية.
نعم هذا هو لسان حال "الجزيرة" في التعاطي مع الشأن الفلسطيني، وبالتالي ما قالت إنه "كشف المستور" ونشر وثائق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، هو من باب السعي إلى تشويه القيادة الفلسطينية وإظهارها بمظهر المستسلم والمتنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وليس تبيان الحقيقة من أجل أن يعرف الناس ما يجري فعلاً في المفاوضات وهناك فرق كبير وجوهري في الحالتين. فعندما تبحث عن التشويه فأنت تنتقي ما يخدم وجهة نظرك وتخفي تماماً كل الحقائق الموضوعية. وعندما تهدف إلى تحقيق المعرفة تقوم بطرح الأمور من مختلف جوانبها بإيجابياتها وسلبياتها وتناقش أولاً أصحاب الشأن، بدلاً من الانكباب لمدة شهور على الوثائق وبشكل سرّي وكأنك وقعت على غنيمة كبرى لتنقض فيها على أعدائك ما حصل مع طاقم "الجزيرة".
ومن خلال متابعة الطريقة التي نُشرت بها المقاطع الانتقائية وكيفية التعليق عليها واختيار الأشخاص الذين جلّهم من الأبواق المعادية لقيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية، تتضح بصورة جلية الأهداف المشبوهة التي تقف وراء هذا النشر، فمثلاً عندما يتم اختيار بعض النقاط التي تبحث في مسألة التبادلية في موضوع الأراضي حتى في منطقة القدس، تجري الإشارة إلى أن الطرف الفلسطيني يقدم تنازلاً مجانياً دون مقابل أو بنسبة 50:1 كما تقول "الجزيرة"، بينما الواقع هو مختلف تماماً. فالتبادلية تتم بنسبة 1:1 في المساحة والكيف، بما لا يجحف بالتواصل الاقليمي والمصالح الاستراتيجية الفلسطينية، وهذا مبدأ أقرته القيادة الفلسطينية وتم الحديث فيه علناً في كل مناسبة، خاصة على لسان السيد الرئيس أبو مازن، حتى إن النسبة المقترحة من الجانب الفلسطيني للتبادل لا تصل إلى 2% من مجمل أراضي الضفة الغربية.
وفي قضية اللاجئين تتجاهل "الجزيرة"، عن قصد، حق كل لاجئ فلسطيني في اختيار المكان الذي يريد أن يعيش فيه، وهو حق فردي لا يستطيع أحد أن يصادره أو ينتقص منه، وتركز فقط على الأرقام وما يقبل به أو لا يقبل به الإسرائيليون. وهنا يُراد للاقتباسات المختارة المجزوءة أن تحقق صورة مشوهة غير حقيقية أو غير كاملة لما يجري من مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي.
الحقيقة الساطعة في عملية الكشف الانتقائية التي تقوم بها الجزيرة هي السعي إلى الإساءة للقيادة الفلسطينية وكشف أوراقها التفاوضية وتكتيكاتها بما يخدم إسرائيل، وبما يظهرها ضعيفة وغير جديرة بإدارة هذا الملف. وهنا يبرز التساؤل المنطقي: هل تريد "الجزيرة"، مثلاً، إلقاء الضوء على بعض الثغرات أو النواقص في عملية المفاوضات من أجل تجاوزها وتصحيح الأمور، أم أنها تعمل بصورة خبيثة وتآمرية من أجل إضعاف القيادة الفلسطينية أمام إسرائيل أولاً، وعلى مستوى الرأي العام ثانياً، حتى تجعلها لقمة سائغة لإسرائيل في أية مفاوضات قادمة؟
من الواضح أن "الجزيرة" التي تمثل ثالوثاً دنساً يعمل ضد مصلحة الشعب الفلسطيني والأمة العربية، تريد خدمة إسرائيل وشركائها في المنطقة، حتى تحصل على ما تريد وترغب في صراعها مع الشعب الفلسطيني وقيادته.
ومما لا ريب فيه، أن توقيت إعلان نشر الوثائق الانتقائي هو توقيت آثم، جاء في وقت توقفت فيه المفاوضات بسبب موقف فلسطيني صلب وقوي حظي بدعم المجتمع الدولي. وإسرائيل وحدها هي التي تعاني من هذا الموقف وتعيش عزلة دولية آخذة في الاتساع مع تزايد التأييد للموقف الفلسطيني واستمرار عملية الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود العام 1967، بحيث أصبحنا نسير على خط مستقيم وواضح نحو اتخاذ موقف دولي حازم تجاه إقرار حق شعبنا في دولة مستقلة معترف بها دولياً، في ظل مطالبة دولية قاطعة بإنهاء الاحتلال.
وتشويه موقف القيادة الفلسطينية والإساءة لها في هذه المرحلة جاء ليصب في مصلحة حكومة نتنياهو المأزومة. وهو دور مشبوه ينسجم مع مصالح الأعداء ويحاول إضعاف قدرة القيادة الفلسطينية على الصمود في وجه الضغوط الإسرائيلية والأميركية لاستئناف المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان والإجراءات الاحتلالية.
لا يوجد لدى القيادة الفلسطينية ما تخفيه في ملف المفاوضات، وإن كان كشف كل الأوراق ليس في مصلحة المفاوض، الذي ينبغي أن يحافظ على سرية تكتيكاته حتى لا يساعد الأعداء في معركتهم ضده. ولكن ما قامت به "الجزيرة" يكشف أن دائرة المفاوضات تعاني من مشاكل إدارية خطيرة تسمح بتسرب الوثائق والأوراق بهذا الحجم وبهذه الصورة، كما يكشف وجود خلل ما في طريقة إدارة العملية التفاوضية، وهذا بحاجة إلى وقفة تصحيح لاستخلاص العبر والدروس، بما يقود أولاً إلى وضع الدائرة تحت إشراف هيئة فلسطينية مؤهلة وموثوقة قادرة على الاحتفاظ بكل الوثائق والأوراق والأسرار، وتتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وثانياً الى إعادة النظر في إدارة ملف المفاوضات من الألف إلى الياء، بحيث لا تبقى بيد شخص واحد وخاضعة لاعتباراته فقط، حتى لو كان ينسق مع القيادة ويأتمر بأمرها.