اليوم يتأكد للجميع ان مصر هي أم الدنيا فعلاً، ليس لانها موطن واحدة من اقدم الحضارات الانسانية على وجه الارض، وإنما ايضاً لأن صخبها وهدوءها يشكل مركز حدث عالمي بامتياز.

مصر أعلنت نهاية حقبة طويلة، سادها قدر كبير من تدهور وتردي الوضع العربي، ومن تراجع المشروع القومي، مرحلة سادت خلالها تقاليد في الحكم لا تنتمي الى لون معروف ومحدد من الأنظمة، تراجعت معها قوة العرب مجتمعين ومنفردين، وتطاولت على الأمة العربية قوى كبيرة وصغيرة. وبغض النظر عن ردود أفعال الحكام العرب، باختلاف مسمياتهم، واشكال حكمهم، فإن عليهم ان يدركوا قبل فوات الاوان جملة الدروس الاساسية التي تقدمها اليوم مصر بعظمتها، بعد ان قدمها الشعب التونسي، وان يتداركوا الوقت، والجهد، فالاجتياح الديمقراطي الشعبي قادم لا محالة.

أولاً: لا يمكن مواصلة الحكم بالوسائل والآليات الجارية التي تهمل دور الجماهير الشعبية، وتتجاهل احتياجاتها ومطالبها وفي مقدمتها الحريات العامة والفردية، ومتطلبات تعزيز المواطنة والكرامة الوطنية، وتوفير فرص العمل، والتوزيع العادل للثروات الوطنية والقومية.

وفي هذا الاطار ايضاً من غير الممكن مواصلة تجاهل دور الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، ومختلف التعبيرات المنظمة التي تعبر عن فئات شعبية مختلفة.

ثانياً: ان الكثير من أنظمة الحكم فقدت احترام وثقة جماهيرها، وان الاستفتاءات والانتخابات المتباعدة والشكلية، وفي الاغلب المزورة، انما ينطوي على تزييف للوعي الشعبي، وقبل ذلك تزييف وتلاعب بالحقائق بما يزين للحكام ما لا يمكن تزيينه، ومواصلة التستر عليه.

ثالثاً: تصرف أنظمة الحكم، مبالغ وموازنات طائلة، على بند الأمن الداخلي، وتقوية الاجهزة المكلفة بحماية النظام، على حساب موازنات التعليم والصحة، والدفاع القومي، والبنى التحتية، وفي الاخير فإن هذه الموازنات تذهب هدراً، لأنها قد تخدم النظام لبعض الوقت ولكنها تنقلب عليه، أو تتخلى عنه، حين ساعة التغيير. ان الديمقراطية الحقيقية، وبناء الشراكات الوطنية، واعتماد مبدأ تداول السلطات سلمياً، من شأنه أن يشكل الدرع الواقي، امام المحاولات التي لا تتوقف عن اثارة الفتن الداخلية بكل عناوينها المعروفة وغير المعروفة، والديمقراطية هي السبيل لتحويل التنوع الطبقي والطائفي والعرقي والعقائدي في اي مجتمع الى حالة إبداع، وخلق، واثراء للمنتوج الاجتماعي والثقافي والسياسي.

رابعاً: لا يمكن الوثوق إطلاقا، بالعلاقات والتحالفات مع الولايات المتحدة، ومثيلاتها، فهذه سرعان ما ان تتخلى عن قيمها ومبادئها وان تتخلى عن رجالاتها، وبسهولة، وان تنقل بنادقها من كتف الى آخر، طالما اقتضت مصالحها ذلك.

هكذا كان يحصل دائماً، وهكذا يحصل اليوم، وسيحصل غداً ايضاً، فلقد أقامت الكثير من الدول الرأسمالية الكبرى غرف عمليات، وتابعت باهتمام شديد مجريات الوضع في مصر، وبدا لافتاً للجميع مستوى ونوع التدخلات الخارجية، ازاء مستقبل ومصير الاحداث الحالية. بعد الخطاب الاول للرئيس حسني مبارك، كان لافتاً ان بريطانيا، سارعت للتعليق، بأن ما ورد في الخطاب، لا يلبي الحد الادنى من مطالب الجمهور المصري، وان على الرئيس مبارك ان يتقدم بخطوات تؤدي الى تغيير شامل. أما الرئيس الاميركي، الذي عقد عديد الاجتماعات والمشاورات مع اركان ادارته، ومع ديبلوماسييه، فقد كان أول من علق على خطاب الرئيس حسنى مبارك، الأخير، مساء الثلاثاء الماضي، مطالباً بتغيير شامل وبعدم قبول استمرار حكم الرئيس المصري حتى لاشهر قليلة هي ما تبقى من ولايته الرئاسية الحالية.

خامساً: ان التهاون مع متطلبات الأمن القومي العربي، والسعي لتحقيق سلام منفرد مع اسرائيل، لا يمكن ان يقود والى السلامة الوطنية ناهيك عن السلامة القومية، فسلامة الوطن القطري، هي بعد سلامة وأمن الأمة العربية، ينطبق ذلك على مصر، وعلى الاردن، كما ينطبق على الفلسطينيين ايضاً، فاسرائيل، ليست دولة، قابلة للاندماج في محيطها، وهي لا تملك مشروعاً سلامياً، وانما تسعى كل الوقت لتأمين نفسها وبقائها من خلال اضعاف الآخرين، وتجريدهم من عناصر قوتهم، وتشتيت شملهم.

ان اسرائيل القلقة جداً مما يجري في الداخل المصري، تقدم مشهداً مرتبكاً جداً، واجراؤها الأول-كان نشر المزيد من جيشها وقواتها على الحدود مع مصر، الى ان طالب بنيامين نتنياهو أية حكومة مصرية قادمة بمواصلة الالتزام باتفاقيات كامب ديفيد.

سادساً، عنصر الوقت مهم جداً، فالقرار السليم في الوقت غير المناسب هو قرار خاطئ ونتائجه لا تتجاوز حدود البحث عن براءة الذمة. يتصل الأمر بضرورة ان تبادر الأنظمة العربية وحكامها الى الاقدام بجرأة وبسرعة على استيعاب الدرس، وتحقيق اصلاحات سياسية شاملة وجذرية، والا فإن التغيير قادم لا محالة.

لقد قدم الرئيس حسني مبارك تنازلات متتابعة، بدأت بالتخلي عن فكرة الوراثة، وبتعيين نائب للرئيس للمرة الاولى منذ ثلاثين عاماً وبحل الحكومة وتشكيل غيرها.

وفي خطاب ثان، عاد الرئيس مبارك، وقدم تنازلات أخرى، تتصل باعلانه عدم نيته للترشح لولاية جديدة، وبتعديل مادتي الدستور رقم 76 و77، والتعهد بقبول الطعون المقدمة بشأن الانتخابات الأخيرة، وهذه كلها مؤشرات تغيير، ومؤشرات نحو قبول جزء كبير من المطالب الشعبية، غير أن هذه التنازلات قد لا تؤدي الى اقفال صفحة الازمة ذلك انها لم تتخذ في الوقت المناسب، وانها تتخذ تحت الضغط.

يعرف بعض الحكام، الارهاصات التي تعتمل داخل مجتمعاتهم وانظمتهم السياسية، ولكن عليهم ان يعرفوا بأن الوقت قد أزف، وان الأفضل لهم ان يبادروا الى التغيير من أن يضطروا بفعل ذلك تحت ضغط وتأثير القوى الشعبية، الأقوى حين تنفجر من كل ادوات البطش والقمع. الفلسطينيون ليسوا بعيدين عن تأثيرات رياح التغيير، وهي تأثيرات شديدة الأهمية، ومن طبيعة استراتيجية ولحظية، ولكن ابتداء عليهم أن يبادروا الى اغلاق ملف الانقسام البغيض، ذلك ان وحدتهم تشكل للجميع حصناً وحماية. ان الجماهير الفلسطينية-صاحبة تجربة طويلة في تفجير الانتفاضات. الشعب الفلسطيني لا يتسامح مع استمرار الانقسام، ولم يعد يقبل الذرائع، ولا يمكنه ان يقبل بالاحتكار السياسي، والتفرد بالسلطة، هذه هي الرسالة التي ينبغي على المسؤول الفلسطيني ان يقرأها بامعان، وان يتبصر أبعادها قبل فوات الأوان