اعادة ترتيب الأوراق في منطقة النزاع التاريخي المتأجج وهي المنطقة العربية الاسلامية أو ما عرف تحديدا بمنطقة (الشرق الأوسط) أصبحت سياسة اميركية معلنة، ففي الوقت الذي قسمت فيه الدراسات الاميركية ومجلس الأمن القومي الاميركي العالم الى مناطق بيضاء ( تتفق معنا في القيم الديمقراطية والمدنية وحقوق الانسان والاقتصاد والتنمية) ومناطق سوداء تمثل فجوات أو ثغرات تختلف معنا، وتمثل لنا مصادر عدم استقرار أو خوف اقتصادي سياسي فلقد جاءت كل من الصين والبرازيل والهند كدول تهديد استراتيجي سياسي اقتصادي لمكانة الولايات المتحدة الاميركية لانها دول من المرجح والمتاح لها ان تتقدم اقتصاديا في المدى الطويل ما يشكل تحديا مباشرا للامبراطورية الاميركية.

 

تخلخل (الشرق الأوسط)

في حين جاءت منطقة الشرق الأوسط كمنطقة تخلخل أمني أساسا لا سيما وانها تعوم على بحر من النفط هو الذي يشكل الرصيد الاساسي لقوة وعظمة واستمرار النفوذ العالمي الاميركي في المنطقة والعالم هذا بالدرجة الاولى، وبالدرجة الثانية لان (اسرائيل) تمثل التمازج الطبيعي بين الاطماع الاستعمارية في المنطقة التي لم تتوقف والتي ورثتها اميركا عن الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) وبين ضرورة وجود قوة ثابتة مستقرة متحالفة عضويا مع اميركا يصار لادخالها في المنطقة طوعا أو كرها كجزء من النظام فيها.

ان إعادة الترتيب في العالم وفي المنطقة جاء على جدول أعمال الادارة الاميركية منذ السعي لتقويض النظام الاشتراكي في إطار الحرب الباردة وهو ما جنيت ثمارة بالانهيار المتسلسل للمعسكر الشيوعي في العام 1990-1991 فكان هذا التاريخ هو المفتاح الاول أو المنعرج الكبير في السياسة الدولية التي تشكلت كنظام عالمي جديد تحكمه دولة واحدة.

 

تحولات ثلاثة في ثلاثين عاما

تحولات ثلاثة رئيسة شهدتها المنطقة في ثلاثين عاما، كان التحول أو المنعرج الأول سقوط نظام المعسكرين وأفول نجم الدول القومية، وتآكل النظام الاشتراكي، والمنعرج الثاني جاء عام 2000 اثر (غزوة نيويورك) حسب مصطلح د.عبد الله النفيسي، أي بعد 10 سنوات من التحول الأول حيث شكل النظام العالمي الجديد عدوا جديدا له تمثل بالاسلام او الاسلام المتطرف او الارهاب بواجهته الوحيدة عبر الاسلام، ولما استنفذ هذا المسار الكثير من أهدافه فإن المحافظين الجدد حينها ومراكز الابحاث الاميركية ( يقول د.عصام عبد الشافي أنها تسعى نحو توظيف تراث أمة أو فكرها لخط أيدلوجي وسياسي معين، فيتم إخضاع المعرفة والمعلومة بشكل متعسف لذلك الخط الأيدلوجي أو التوجه السياسي، ويقول عن المراكز البحثية الاميركية انها: لتوجيه صُنّاع القرار السياسي والاقتصادي بل وتوجيه الرأي العام الاميركي والدولي، والتأثير في القطاعات الفاعلة على المستويات الشعبية في كثير من الدول.) خلصوا لضرورة احداث التحول الثابت في العالم وفي منطقة التخلخل الأمني الكبير أي منطقة الشرق الأوسط عبر ما سمته نشر الديمقراطية وحقوق الانسان ما بدا معه العام الجديد 2011 اي بعد 10 سنوات أخرى.

 

أوراق اللعبة والمساحات

ان الذي يملك أوراق اللعبة يستطيع ان يدير الأمور كما يشاء : يقرّب ويبعد ويسمح ويمنح او يقطع ويمنع، يحدد الأدوات ويرسم الأبعاد والمسافات، ويعطي مساحات للحركة قد يتواجد فيها الشيء ونقيضه وهذا ليس فيه ضرر ما دامت كل الأطراف ذات مرجعية واحدة مفترضة هي الأوحد.

نصل الآن لمرحلة قطف الثمار التي تتلو مرحلة تمهيد الأرض ثم الزراعة ما كشف عنه موقع (دبكا) الاستخباري الاسرائيلي الذي أكد عبر مصادره المخابراتية ان التغييرات الحاصلة والتي ستحصل في المنطقة العربية هي بأصابع وأهداف وأدوات اميركية استبقت انهيارات في المنطقة قد تقع، وغرست على مدى سنوات مفاهيم في الكثير منها جميل ومهم وعادل مثل المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان وضد الاستبداد ولكن وجّه ذلك بشكل يحدث فوضى سمتها وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندا ليزا رايس ( الفوضى الخلاقة) في إطار ما سماه الاميركان أيضا (الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد-منذ العام 2004 تحديدا) (وتتساقط قطع الدومينو العربي، الواحدة تلو الأخرى، كما تنبأ برنارد لويس، وقد أكد وليام كريستول (من المحافظين الجدد) أن هذه فرصة للولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة مرة أخرى في المنطقة-يراجع د.عبد الوهاب المسيري بمقاله (الشرق الأوسط الجديد في التصور الاميركي الصهيوني عام 2006).

 

الشرق الأوسط الجديد الى أين؟

التوجهات الاميركية الجديدة في المنطقة الآن وفي مصر تحديدا وفي سياق استذكار الكاتب حافظ البرغوثي للكتاب الشهير (لعبة الأمم) جاءت لتحقيق مصالحها بالطبع عبر:

قطع الطريق على صعود وتنامي ما سمي ( المد الاسلامي) خاصة المتطرف منه، والتصالح مع التيار المعتدل فيه ما أمكن وتقديمه، وفي الوقت ذاته ابراز تيار جديد لا هو اسلامي ولا هو عربي ولا اسلامي عربي وانما تيار غير مؤدلج ولا يمتلك فكرا نابعا من حضارة المنطقة من خلال ما أصبح يسمى منظمات المجتمع المدني أو منظمات حقوق الانسان التي يسيطر على أغلبها الغرب عامة عبر فرض اجندات ومخططات وأفكار لا يتفق الكثير منها مع تراث وحضارة وأولويات المنطقة العربية والاسلامية.

إدخال الدولة العبرية في المنطقة كعضو كامل العضوية في نظام ( الشرق الاوسط الجديد) بحيث (تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل وقائدة-كما يقول د.عبد الوهاب المسيري تعليقا على الشرق الأوسط الجديد) بكافة الوسائل، وعبر جهة معروفة في المنطقة تقوم بهذا الدور بجدارة عالية مع فضائية تخصصت بالفتنة الموجهة تلك التي ارتضت دور الثغرة، والعدوانية ( على حد اشارة محرر صحيفة الهند اليسارية مؤخرا) أو دور السكين في جسد الامة العربية الاسلامية.

اضعاف الأمة العربية عبر تقطيع أوصالها (العراق، السودان، لبنان، وربما اليمن...) وعبر توجيه المعارك العربية من الخارج (معارك العرب خارج دولهم على رأسها: الالتفاف حول القضية الفلسطينية والقدس ومحاربة الصهاينة والالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية، ونجاحات الدبلوماسية الفلسطينية بالثوابت والاعترافات بالأمم المتحدة..الخ ) الى الداخل الاقليمي العربي فقط ( قضايا الحكم الداخلي والبطالة والتنمية والديمقراطية وحقوق الانسان) وكما يحصل في معظم الدول العربية اليوم.

(وتحطيم أي أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أي معارضة للأجندة الإسرائيلية كما قال الكاتب بول كريغ روبرتس).

 

قدرة الشباب على التغيير

في الوقت الراهن وفي المنعرج الثالث من اعادة الترتيب في المنطقة لا يمكن ان نحتسب الفضل للتغيير في الثقافة الوطنية والقومية العربية لاميركا رغم رغبتها وسعيها الحثيث لاحداث التغيير ضمن أهدافها المعلنة وأجندتها هي كما ذكرنا، بل ان الفضل الحقيقي في ذلك يأتي من حيوية وقدرة الشباب العربي على التحليل وتقدير الأمور والفرص والرؤية الواضحة لضرورات التغيير في الداخل والخارج ويأتي أيضا للقدرة الاتصالية العالية التي وفرتها وسائل الاعلام والاتصال التي مكنت الأفكار والرؤى من التلاقي والتواصل والتأثر والتأثير ما أصبح سمة العصر وأحد أدوات التغيير الأساسية فيه.

 

التغيير والشباب (العالميين)؟

الا أنه ولكل محلل ذي نظر ثابت وثاقب فلا يمكن لأي تغيير -أو مطالبة به- أو تحوّل أو انعطاف أو ثورة أن يحدث/تحدث هكذا فجاة ومن الهواء، فلكل سبب مسبب ولكل نتيجة مقدمات ولا نتائج قوية ترتبط بفوضى بلا رأس ما جعل عديد المحللين يعتبرون ان قدرة مراكز الدراسات الاميركية والاوروبية على اختراق العقل العربي (في ظل انعدام أو قلة مثيلاتها لدى العرب) هو الذي أعطى هذه المراكز(عددها في الولايات المتحدة الاميركية 1750 مركزا منها ما يزيد على 100 في واشنطن) وبالتالي القيادة السياسية صورة أوضح من تلك الموجودة لدى العديد من الأنظمة العربية فتعاملت معها بمهنية ودقة ودون ضجيج بحيث أصبحت مطالب التحول والتغيير الكامنة في العقل العربي واضحة له وللمتعاملين معها من اي جهة كانت.

وهنا تصبح مساحة الاتصال العالية عبر القرية الاتصالية العالمية الجديدة (الشبكة وما انبثق فيها من الفيسبوك والتويتر والبريد والمواقع ومراكز الأبحاث والمنظمات المدنية...) ومطالب ورغبات الحرية والحوار والديمقراطية والانفتاح والتلقي في فيض المعلومات التي توفرها الشبكة (الانترنت) ومطالبها وأفكارها ومعطياتها -ومن يتحكمون بها- تتقاطع أو تتلاقى مع متطلبات المبحرين في الشبكة والشباب منهم خاصة، ومع مصالح أحزاب وتنظيمات ودول بل ودول عظمى دون أن يحس أي من هؤلاء الشباب (العالميين) بأنهم يخرجون من جلدهم أو يتبنون غير ما يحسون أو يفكرون أو يحتاجون اليه، بل انه في حقيقة الأمر يمثلهم هم بغض النظر عن تقاطع المصالح مع الأحزاب المتوثبة للحكم أو مع مصالح دول عظمى.

 

مصر والشباب الثائر

نأتي الى مصر قلب العروبة النابض وحضارة السبعة آلاف عام، ومحط أفئدة كل العرب وهي الدولة التي مثلت للعرب مركز الاستقطاب والجذب والشقيق الأكبر والعنوان في كل المجالات وهي قائدة الأمة للحرب أو للسلام فلا حرب بلا مصر، ولا سلام دونها، واحتفظت بكثير من مميزات الاسبقية والأولوية في المحيط العربي والاسلامي منذ فتحها عمرو بن العاص ودخلها من غزة ثم العريش في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- وظلت تشكل درع الأمة الواقي ومهد نهضتها حتى اليوم.

ان مصر التي خاضت الحروب الشرسة ضد الصهاينة، وأقامت معهم معاهدة سلام (لم تنعكس على الشعب) وتحيط اسرائيل بجدار عال يرفض العلاقات الطبيعية والانزلاق الكامل رغم معاهدة كامب ديفد، ومصر الساعية للمصالحة الفلسطينية والوحدة الوطنية، ومصر الرافضة للهيمنة الاميركية الكاملة والرافضة للتدخلات الاقليمية المستندة (للفوضى الخلاقة) و(الشرق الأوسط الكبير أو الجديد) والرافضة للتمدد أو التهديد الخارجي الاقليمي سواء من ايران أو اثيوبيا أو غيرها، هي مصر العلاقات الخارجية التي من المحتم ان تكون مستهدفة بالمرحلة الثالثة من إعادة ترتيب الأوراق الاميركية في المنطقة.

ومهما تلاقت بعض الأهداف أو المصالح بين الشعوب العربية أو الشباب الثائر المطالب بالتغيير والعدالة والديمقراطية والمدنية مع بعض قيم أو مصالح النظام العالمي الجديد والولايات المتحدة الاميركية تحديدا فانه تلاق ظاهري وليس في العمق كما نعتقد، ففي الوقت الذي تشدد فيه تيارات التنوير في الأمة ويشدد فيه الشباب العربي ومنه الفلسطيني والتونسي والمصري الثائر على قيم العدالة عامة، رغم تسرب قيم أخرى خارجة عن مسار حضارة المنطقة اليه، الا ان الأهداف الاميركية غير الظاهرة هي تلك المتعلقة حكما بالسيطرة على المنطقة، وبمكانة مصر ودور مصر القادم.

 

هزات وصناعة تاريخ جديد

إن إحداث أو حدوث هزة أو هزات في المنطقة العربية قد يستحضر فيها المفكرون أدبيات (طبائع الاستبداد) لعبد الرحمن الكواكبي فيشار لهذا النظام او ذاك بالطغيان او الدكتاتورية والتسلط والتوريث وتكميم الأفواه واستتفاه الجماهير والضحك عليها والتدجيل عليها والفساد وسرقة أموالها وبعثرتها في مشاريع ومصالح لا تعود عليه الا بمزيد من الفقر والبطالة وتباطؤ التنمية بل والاحتراب الداخلي والذي نقوله هنا وما يضير اميركا ان يستمر ذلك أو يزول في مثل هذه الدول ؟! انه لا شيء مقابل ان تحقق أهدافها التي تحوصلت في الفضاء الامبراطوري والنفط وأمن (اسرائيل) في منطقتنا، الا أنه من الحكمة ان نضيف على هذه الأهداف اليوم شباب المستقبل.

وقد يستحضر آخرون أقوالا مثل أقوال الكاتب الاسرائيلي (غي باخور) الذي قال عن الدول العربية انها (لم تنجح في منح مواطنيها حياة ثقافية كاملة، ومعظم شعوبها فقيرة، وهي دول تتسم كلها بالطغيان ولا تنطق كلمة الديمقراطية ولو في دولة واحدة) مضيفا: (وإذا ما تمت محاولة ديمقراطية في بعضها، فإن النتيجة تكون تولي نظم إرهابية أو فوضى)، وقد يجوز لنا ايراد تحليل الكاتب ولد أباه الذي قال إن سمتي النموذج التسلطي التنافسي (العربي) هما: (الأزمات الاجتماعية العاتية لأسباب اقتصادية ومن آثار طبيعة النظام الفاسد، وتزايد الضغوط الدولية للإصلاح الديمقراطي بسبب نهاية الحرب الباردة وانحسار المنظومة الاشتراكية التي كانت توفر غطاء إيديولوجياً وسياسياً للنزعات الثورية المحلية)، ومستنتجا انحسار هذا النموذج التسلطي لأسباب ثلاثة هي: الأزمات الاجتماعية الخانقة وثانيا: تضاؤل قدرة المؤسسة الحاكمة على بناء كتلة الهيمنة الواسعة الضامنة لمعادلة الاستقرار السياسي والاجتماعي وثالثا: التطور الداخلي للمؤسسة العسكرية التي تغيرت تركيبتها المجتمعية الى ضباط مدنيين من ذوي الثقافة الحديثة والمنفتحين على العالم الجديد.

ان قوة الشباب العربي ومنه البارز اليوم التونسي والمصري وقدرته على التغيير أصبحت واعدة وكبيرة ولا يخاف منها الا عدو أو مستعمر او دكتاتور او مخبول، وهي القوة الصافية التي تحتاج اليوم في ظل المنعرج الجديد الذي جعلهم يصنعون التاريخ العربي لأن تبلور نفسها بعيدا عن استغلال القوى العظمى او القوى الاقليمية أو التنظيمات الايديولوجية تلك الاسلاموية او غيرها التي أثبتت الفشل الذريع وعدم القدرة على تحريك ذرة، وفاقت شعاراتها الاستعراضية خطوات أقدامها على عكس هذا الشباب المتفجر قوة وحيوية وعنفوانا وإرادة في التغيير.