كان لافتاً تلك الأصوات الهادئة والمتزنة التي خرجت من حماس على إثر قيام إسرائيل بارتكاب جريمتها البشعة باعتقال ستة من عناصرها الذين كانوا محتجزين لدى الأجهزة الأمنية في الضفة على خلفيات أمنية وليس بسبب التعبير عن الآراء والتوجهات السياسية، بل الجريمة الإسرائيلية بلغت ذروتها باغتيال رجل كهل من آل القواسمة الكرام بينما كان نائماً على سريره في غرفة نومه، وهي الجريمة التي هي جزء من مسار طويل في انحدار الأخلاق الإسرائيلية بعد أن كانت إسرائيل تدعي أنها ملتزمة بمنظومة الأخلاق اليهودية، لتأتي ممارسات الاحتلال، وممارسات جيش الاحتلال، وممارسات قيادات إسرائيل مثل نتنياهو وأفيغدور ليبرمان وإيلي يشاي وسلفان شالوم ومن على شاكلتهم لتدمر بشكل منهجي آخر ما تبقى من سمعة إسرائيل، وهذا ما بدأنا نقرأه اليوم من وثائق على صفحات موقع Wikileaks، حيث أجرت إحدى تلك الوثائق مقارنة بين نتنياهو الذي يقوم بتدمير سمعة إسرائيل وأمنها المستقبلي مستعينا بالعديد من الجهات هنا وهناك، وبين الرئيس أبو مازن الذي من خلال خطابه السياسي، ومبادراته ومتابعاته، وعمل حكومته الدؤوب التي يرأسها الدكتور سلام فياض، يواصل بناء فلسطين، فلسطين الدولة المستقلة، فلسطين المؤسسات والأمن ورؤية التعايش الإيجابية.وأدرك كل من لديه حتى ولو قليل من العقل والصدق والوطنية، أن هدف إسرائيل من وراء اعتقال الستة، هو نصب فخ، ولكنه فخ ساذج، لاستدراج أولئك الذين لا يريدون المصالحة، ويرتعبون منها، ومجرد التفكير فيها يتحول إلى كوابيس تطاردهم، لكي يقعوا في هذا الفخ الساذج، يطلقون عقيرتهم بالصراخ، دون الحد الأدنى من السيطرة على النفس، فرأيناهم يعودون إلى الاسطوانة البلهاء المشروخة، أسطوانة التنسيق الأمني، واتهام أجهزة السلطة، وتبرئة الاحتلال الإسرائيلي.في الوقائع الثابتة: أن قصة الإفراج عن الستة من عناصر حماس الذين كانوا محتجزين لدى السلطة، لم يتم اعتباطاً، بل هو نتيجة جهود خيرة داخلية وخارجية توجتها جهود أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وكانت جهود الأمير تسعى إلى أن تكون هذه الخطوة ضمن سياق المصالحة، وأنا اعتقد أن الباب لازال مفتوحاً، والنوايا لازالت متوفرة في هذه الاتجاه، لأن الفلسطينيين – كما أعلن الرئيس أبو مازن – مقبلون على استحقاق تاريخي، وهو إعلان دولتهم حتى أيلول المقبل، وهناك جهد عربي كثيف، وجهد دولي مستمر، من أجل توفير قاعدة مواتية لإعلان الدولة، سواء من خلال تمهيد الطريق في المحافل الدولية ذات الاختصاص، أو تكثيف معدلات البناء على أرض الواقع، أو ضبط الإيقاع الداخلي حتى لا نستخدم ذريعة للتفلت الإسرائيلي, وهنا، في هذا السياق، فإن العودة بجدية إلى مناخات المصالحة يبدو أمرا ضرورياً وملحاً.حكاية الدخول الإسرائيلي الإجرامي على الخط، لعرقله أو إفشال التوجهات الفلسطينية هي حكاية قديمة وطويلة، ومن يدعي أنه لا يعرف فصولها ومشاهدها إنما يكذب على نفسه وعلى شعبه ويكذب على الله ورسوله.فهذا الاحتلال، كان يتدخل في بعض الأحيان بالتصفية الجسدية ولا يكتفي بالاعتقال, وكان في أحيان أخرى يعيد اعتقال مناضلين قضوا في سجونه سنوات طويلة, واخترعت السلطة الوطنية في صراعها مع هذا الواقع المؤلم ما لم يكن معروفاً من قبل، مثل احتجاز بعض المطلوبين في سجونها، أو تأمينهم في بيوت بعض قياداتها, هل هناك أحد لا يعرف هذه الحقائق، من يدعي أنه لا يعرف، يحكم على نفسه أنه ليس جزءاً من الزمن الفلسطيني, وكلنا نعرف الاتهامات التي كانت توجه للسلطة الوطنية تحت أسم “الباب الدوار”، أو فرض الإقامة الجبرية الشكلي.المهم أن عملية الإفراج من السلطة عن العناصر الستة تمت، وأشيعت أجواء إيجابية، وكانت القيادات الأمنية في السلطة الوطنية – كنوع من الاحتراز –طرحت على حماس وعلى العناصر الستة إمكانية أن يتدخل الاحتلال سلبياً، وبالتالي طرح ضمانة وتأمين هؤلاء الستة بعد الإفراج عنهم، وأقروا بتحمل المسؤولية، والوثائق – كما قال اللواء عدنان الضميري – موجودة لمن يريد التأكد.السؤال هو: لماذا سارع أهل القطيعة، وجنود القطيعة، إلى اتهام السلطة وتبرئة إسرائيل؟ لماذا لم يذكروا الحقيقة؟ لماذا لم يسيطروا على أنفسهم؟ لماذا أرادوا تبديد الأجواء الإيجابية والعودة إلى تراشقات الانقسام؟الحمد لله: أن أصواتاً هادئة من قيادات حماس ومن كوادرها، رفضت هذا التشنج، ودعت إلى الحكمة والتبصر، ولقد سمعنا الدكتور عمر عبد الرازق، والدكتور ناصر الدين الشاعر يدعوان إلى عدم التسرع، والتعقل، وعدم توفير أي غطاء للمجرم الأول والأخير وهو الاحتلال الإسرائيلي.القطيعة لا تفيد أحداً، حتى أولئك الذين يتشبثون بالقطيعة، ويعتبرونها تجارتهم الوحيدة الرابحة سيواجهون الخسارة الكارثية في نهاية المطاف, وأعظم رد على الاحتلال الإسرائيلي هو رفض الاستدراج بسهولة إلى فخاخه الساذجة، والإصرار على بقاء ملف المصالحة مفتوحاً بإيجابية لحين انجازه بالكامل.