مرت علينا منذ أيام قليلة الذكرى السادسة والأربعين لإنطلاقة الثورة الفلسطينية، ولعل لهذه الذكرى ميزة هامة للكثير من كوادر فتح، فهي تأتي للمرة الثانية بعد إنعقاد المؤتمر العام السادس للحركة الذي عقد قبل سنة وأربعة أشهر بعد غياب طويل إمتد أكثر من عشرين عاماً، وتأتي في ظل إستمرار الأزمات والظروف المعقدة التي تعصف بالمشروع الوطني الفلسطيني، وغياب تحقيق إنجازات هامة في معظم الملفات والمسارات الصعبة والشائكة ( مسار المفاوضات والعملية السلمية المعطل نتيجة إصرار الاحتلال الاسرائيلي على سياسة الإستيطان التي تكرس الإحتلال والإستعمار وتقضي على فرص إقامة الدولة الفلسطينية، وملف المصالحة الوطنية المعطل نتيجة إصرار حركة حماس على سياسة المماطلة التي تكرس الإنقسام وتقضي على مقومات المشروع الوطني الفلسطيني)، وحالة الشعور المتنامي لدى كوادر الحركة ببطء مسيرة إحداث نقلة نوعية في الملفات التي يعتبرها البعض أنها سهلة ونملك زمامها خاصة بعد إنعقاد المؤتمر العام السادس للحركة ( ملف إصلاح الحركة ومأسستها وما يندرج تحته من تشعبات تمس كل مكونات الحركة من الخلية القيادية الأولى إلى أعضاء وأنصار الحركة، ملف التعديل الوزاري والعلاقة مع الحكومة وما يتشعب عنه من جدلية المفهوم الثوري والمفهوم الوظيفي لدى كوادر الحركة،........ الخ).ظروف محبطة لمن لا يعرفون تاريخ الظروف القاسية التي عصفت بمسيرة حركة فتح، هذه الحركة التي منذ إنطلاقتها وبعد كل محنة ومعركة خلال مسيرتها النضالية يتكالب عليها ويتحالف أعدائها من أجل إستغلال ما لحق بها من جراح من أجل الإجهاز عليها، تعود أقوى مما كانت عليه ويذهل أعدائها من معجزتها الدائمة بالبقاء وتحويل الخسارة الى نصر (بعد محنة الأردن حصدت حق التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد محنة لبنان فجرت الإنتفاضة الأولى وحصدت العودة من الشتات وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد محنة تدمير كافة مقرات الأجهزة والقدرات الذاتية في إنتفاضة الأقصى ومحنة الإنقلاب والإنقسام الحمساوي يبزغ فجر موسم الحصاد ببناء مؤسسات الدولة والإعترافات المتتالية من دول العالم بالدولة الفلسطينية.....)، ما هو سر هذه المعجزة ؟؟ معجزة حركة فتح وبقائها وإستمرارها ؟؟.إن الناس لا يثورون لأنهم مظلمون أو محرمون أو متألمون، وإنما يثورون حينما يوجد مغامرون بينهم يحركونهم ويقودونهم إلى الثورة. إن سبب الثورة في الرجال الثوار لا في الظروف، ولهذا لم نشهد ثورة في الكثير من المجتمعات المحرومة والمتألمة، ولم يحدث أن كانت كل الشعوب الثائرة هي أشد الشعوب حرماناً أو أقلها نصيباً من الحياة والعدل، إن سبب الثورة ليس في الظلم أو الحرمان أو في الإحساس بهما، بل في وجود المغامرين الذين يقودون الثورة وهم في الغالب من ذوي المستوى الحسن مالياً وإجتماعياً (أبو عمار، أبو جهاد، أبو مازن، أبو ماهر غنيم، سعد صايل، أبو علي إياد، .......الخ، كلهم كانوا في مستويات حسنة مالياً وإجتماعياً بل إن زملائهم في الوظائف والأعمال ممن لم ينخرطوا في الثورة أصبحوا أصحاب ملايين)، لا يمكن للمغامر الثائر أن يكون ممن يحيى حياة مندحرة وذليلة تماماً، وفاقد للرغبة أو القدرة على المقاومة.رغم كل الثورات والهبات التي خاضها الشعب الفلسطيني في مواجهة الإنتداب البريطاني وتهويد فلسطين، حلت نكبة فلسطين والتي جعلت الشعب الفلسطيني يعاني من الآلام الباهظة التي تصنع الذهول والإنسحاق، أقسى أنواع الظلم والهوان الذي يحول الانسان إلى ميت حي، ظروف جعلت العدو الصهيوني يجزم أن هذا الشعب إندثر وإستسلم لمصيره وإن هذه الظروف لا يمكن أن تصنع ثورة، ولكن حصلت المعجزة وظهر الرجال المغامرون يقودون الثورة ووجد فيهم الشعب الفسطيني كل الأمل حينما فقد كل الأمل، فالثورة رجال لا ظروف.إن الرجال الذين إنطلقوا وتغلبوا على أقسى الظروف لحظة إنطلاقتهم، تعلموا وتمرسوا كيف يجابهون ظروفاً أقل قسوة إذا ما قورنت بالظروف لحظة إنطلاقتهم، فتجاوزوا كثيراً من المحن والمعارك والمؤامرات، هؤلاء الرجال المغامرون منهم من رحل إلى جنات الخلد على درب الشهادة، ومنهم الذي ما زال يحمل لواء القيادة مثابراً على مواجهة المحن والظروف المعقدة بقيادة الرئيس أبو مازن الذي كان صوته المرجح لإنطلاقة الثورة حينها بالإعتماد على إيمان الرجال وعدم إنتظار الظروف. لقد صنع هؤلاء الرجال مدرسة فريدة من مدارس الثورات العالمية، تخرج منها ألاف الأبطال من الشهداء والأسرى والجرحى، وتخرج منها أجيال من القيادة أفرزتها مؤتمرات الحركة المتتالية والتي كان أخرها المؤتمر السادس والذي أفرز قيادة من الإخوة والأخوات مزجت بين كافة أصناف المغامرين في مواجهة المحن المتتالية للشعب الفلسطيني (محنة النكبة، محن ومعارك الثورة في دول الطوق، محن ومعارك الإنتفاضات الأولى والثانية، محن ومعركة الإنقلاب الحمساوي)، إن هذا المزيج قادر على صنع الإنجازات التي سيفتخر بها كل فتحاوي يؤمن بان الثورة هي رجال ونساء لا ظروف، ونحن واثقون من هذه القدرة لأن فتح في معالجتها لكل القضايا الشائكة والقضايا السهلة عبر التاريخ ومنذ إنطلاقتها كانت تزاوج بين التضحية المثالية وهي كما عرفها فلاسفة اليونان بأن تسير إلى ذاتك عبر الفرار منها، وبين التضحية الخارقة وهي أن تفر من ذاتك إلى الأخرين دون أن تقصد الوصول أليها، أي أن تعطي نفسك ثم لا تشعر أنك تعطيها ....... أن ينطلق منك فيض الحياة بلا حدود للأخرين.