كنت سعيدًا، ومثل الكثيرين المعنيين بإنقاذ الذاكرة الجمعية الفلسطينية، بعودة الروح لمشروع المكتبة الوطنية الفلسطينية، الذي طال انتظاره، وذلك بتنظيم الاطار الإداري للمكتبة لقاء في مطلع شهر اذار الماضي، في متحف محمود درويش في رام الله، حمل اسم "مشروع المكتبة الوطنية الفلسطينية، الهوية والذاكرة في الصراع مع الاحتلال"، شارك فيه القائمون على المؤسسات الرسمية الفلسطينية المعنية بالمشهد الثقافي.

وبعد أيام قليلة كنت ضيفًا على رئيس المكتبة الوطنية الصديق عيسى قراقع، وهو الكاتب، الأسير المحرر والوزير السابق لهيئة شؤون الأسرى والمحررين وذلك في مقر المكتبة المنوي تجهيزه ليكون الحاضنة والمرجعية للكتاب الفلسطيني.

في هذا اللقاء وضعت رئيس المكتبة الوطنية الفلسطينية برحلة قسم هام من أرشيف حركة التضامن البلجيكية مع الشعب الفلسطيني من منتصف ستينيات القرن حتى منتصف سبعينياته، وهو أرشيف غني وهام يشمل مراسلات، ملصقات وبيانات ومجلات باللغات الهولندية، الفرنسية والعربية أيضًا ويؤرخ ليس فقط لمرحلة هامة من حضور الثورة الفلسطينية، بكافة فصائلها، في الأردن ولبنان وعدد من الساحات الأوروبية، بل حتى لمرحلة هامة من التاريخ السياسي والاجتماعي البلجيكي وتحديدًا في مدينة لوفان الواقعة في الإقليم فلاندر الناطق باللغة الهولندية وهو الإقليم الأكبر المكون للمملكة البلجيكية، وقد حطت رحلة هذا الأرشيف، وبطلب من سفارة فلسطين في بلجيكا، في جامعة بروكسيل الحرة، على أمل ان تكون المكتبة الوطنية الفلسطينية البيت الأخير لهذا الأرشيف البلجيكي النضالي مع فلسطين وقصة هذا الأرشيف تستحق ان أرويها يومًا ما بالوثائق الموجودة بحوزتي.

مدينة لوفان هي المسرح الرئيسي للأرشيف التضامني الخاص بفلسطين فهي تقع على بعد 25 كم من العاصمة بروكسيل وبها جامعة لوفنالكاثولوكية وهي أكبر وأقدم جامعة في بلجيكا، تأسست عام 1425 وتضم المعهد العالي للفلسفة والذي يضم أرشيفات الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل، وشهدت أروقة هذه الجامعة في عام 1968 فصلاً عنيفًا من صراع داخلي قومي في بلجيكا محوره اللغة بين القوميتين الرئيسيتين في بلجيكا: القومية الفلامنية والناطقة باللغة الهولندية واسم اقليمها فلاندر، وهو الأكبر والقومية الوالونية والناطقة باللغة الفرنسية واسمها والوني، وقد أدى هذا الصراع في 1970 إلى خروج الأساتذة والطلاب الناطقين باللغة الفرنسية من الجامعة والمدينة وتأسيسهم لجامعة ومدينة جديدة تدعى لوفان لونوف أي لوفان الجديدة وهي قريبة من لوفان الأصل.

في جامعة لوفان رأى الاتحاد العام لطلبة فلسطين – فرع بلجيكا – النور في منتصف الستينيات على يد الطالب حنا صافية وهو اليوم من أبرز شخصيات الجالية الفلسطينية في البرازيل ولحقه شقيقه الدبلوماسي المثقف اللامع عفيف صافية، والذي كان سفيرًا لفلسطين في العديد من الدول وانضم اليهم أخوان آخران في العمل الوطني الفلسطيني هم الأكاديمي البارز البروفسير بشارة خضر والذي يمتلك اليوم قرابة 30 كتابًا عن العالم العربي وفلسطين باللغة الفرنسية ورئس على مدار سنوات طويلة معهد الدراسات العربية والإسلامية وشقيقه الغائب الحاضر الشهيد نعيم خضر والذي كان أول مدير لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بروكسيل في عام 1975 واستشهد في الأول من حزيران 1981 أمام باب منزله سماه الرئيس الراحل ياسر عرفات "رسول فلسطين"، وشكل هؤلاء الأخوة ومعهم العديد من الطلاب الفلسطينيين والعرب ظاهرة مميزة في تاريخ الثورة الفلسطينية وحركة فتح في أوروبا تستحق العودة لها.

ونبقى في لوفان، فقد شرفتني القنصل البلجيكي العام الأسبق في القدس الصديقة السيدة دانيل هافين، وهي من مدينة لوفان بدعوتي، قبل سنوات، لزيارة مدينتها واخذتني مع زوجها وهو أستاذ جامعي في التاريخ، أحب كثيرًا مدينة القدس وعاش بها طيلة فترة عمل عقيلته، في جوله في هذه المدينة الجميلة وتحديداً إلى المكتبة العريقة لجامعة لوفان، وهي واحدة من اقدم المكتبات في أوروبا، تم بناؤها في القرن الخامس عشر وتحتوي عشرات آلاف المخطوطات التاريخية في أوروبا.

هناك رأيت لوحة مكتوب عليها "هنا تنتهي الثقافة الألمانية" أمام صور ولوحات تبين تعرض هذه المكتبة العريقة للتدمير والحرق مرتين على يد الاحتلال الألماني النازي خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد دمر الاحتلال  الألماني الجزء الأكبر من مدينة لوفان ويعتبر البلجيكيون أن هذه المدينة هي واحدة من المدن البلجيكية السبع "الشهيدات" (villes martyres) وهو المصطلح الذين يستخدمونه في وصف جرائم الاحتلال النازي الألماني لبلجيكا.

صدفت وأنا في زيارتي لمكتبة لوفان بأن قام الاحتلال الإسرائيلي بتدمير مركز سعيد المسحال الثقافي في غزة الشهيدة بعد أن دمر قبله قرية الحرف والفنون ومشروع المكتبة الوطنية في غزة والذي تم وضع حجر الأساس له في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

 

المصدر: الحياة الجديدة