مضت السنون سراعًا، تخط على وجوهنا ندوب الحزن، والشعور بالغربة القاتلة التي توغلت في أعماقنا وهتكت الأنسجة والشرايين والإوردة واستباحت كل شيء في دواخلنا المكلومة، وفي وجدان كل واحد منا، ونحن نرى قضايانا تتعثر في أروقة الأمم المتحدة، وفي مكاتب رؤساء وزعماء الدول الكبرى التي تتعامل معها وفقا للمصالح والاعتبارات السياسية، وليس وفقا للمبادئ والقيم والأخلاق، وتقاليد السياسة الصحيحة، ماجعل قرارات الزعماء ترتبط بنوع المصلحة، وليس بالرغبة في إنصاف المظلومين والمحرومين، الذين تقطعت بهم السبل، وهم يبحثون عن حق يراد له أن يضيع الى الأبد، ويراد لهم أن يصمتوا الى الأبد، وصار الحنين الى البدايات، وأيام النضال الأولى التي تشبه التحف النفيسة، وقطع الأحجار الكريمة، وكأنها صناديق ملئت بالذهب والماس، وسواها من النفائس التي لاتبلى، وإذا ماطال عليها العهد ارتفع ثمنها، وتباهى بها مقتنوها.
في الحادي عشر من نوفمبر عام 2004 أعلنت وفاة الرئيس والقائد والمناضل ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات الذي أكد في مناسبات عدة إنه سيرحل شهيدًا في سبيل فلسطين، وقضية شعبها العادلة، وقد نعاه العالم بأسره كمناضل، وعنوان لمسيرة حافلة بالصبر والمواجهة مع الاحتلال الغاشم الذي أرغمته مقاومة الشعب الفلسطيني، وقيادته الباسلة على أن يجلس في مؤتمرات، وفي عواصم عدة ليتفاوض مع الفلسطينيين بعد ان أدرك أن القوة الغاشمة ليست حلاً مع شعب يعشق الشهادة، كما يعشقون هم الحياة التي ليست هي الحق دائمًا إذا كانت هي الغاية النهائية، وعمر الإنسان سيكون قصيرًا إذا ارتبط بالحياة، بينما سيمتد ويستمر إذا فني صاحبه من أجل الحق، وهكذا كانت عقيدة الشهيد ياسر عرفات.
بعد كل هذه السنوات يعبر لي فلسطينيون ومثقفون عرب عن ندمهم وحزنهم وهم يتذكرون كيف كانوا ينتقدون وبشدة بعض القرارات الحاسمة للرئيس عرفات، وطريقة تعاطيه مع الأحداث، والمواقف الدولية من القضية، وكيف يشعرون الآن تجاهه، وتمنياتهم لو أنهم أتيحت لهم الفرصة ليتحدثوا إليه، ويعبروا له عن الندم عن تلك المواقف وجها لوجه ودون وسيط، فهذه هي الحياة تمضي والشعب الذي تعلم من ياسر عرفات كيف يصمد ويقاوم وينتزع الحقوق لايزال يعتقد بضرورة الصبر والصمود وعدم الخنوع، وممارسة الحق في الدفاع عن النفس والوطن والثقافة والعقيدة، والاستمرار على ذات النهج، وعدم الاستسلام مهما بلغت التحديات، وزادت، ومهما تعالى المحتل، وغرته الدنيا بسلاحه وماله وحلفائه، سواء الذين هم من شاكلته، او الذين يخافونه، او الذين يستقوون به على غيرهم، أو ينافقون الغرب وأمريكا كي ترضى عنهم بموقف لايدوم أثره، لأن ماينتج عن الباطل مؤقت، وماينتج عن الحق يدوم، ويتحول إلى منهج تتعلم منه الأجيال أن لاشيء يستحق أن نستسلم لأجله، وأن مايستحق المواجهة لأجله كثير وكبير، وأثره خالد لا ينقطع، ولا يبلى، ولا يضعف، وكلما طال أمد المواجهة كلما زاد المقاوم قوة، وعزيمة وإيماناً بأنه منتصر لامحالة، وأن عدوه منهزم مهما امتلك من عناصر البطش والقوة والمال، ومهما توهم أنه الأقوى والأكثر عدة، فما بني على باطل فهو باطل، وسينكسر.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها