المثقف العضوي هو الإنسان الفاعل في المجتمع، الذي انتدب نفسه للدفاع عن ثوابت وركائز هوية وأهداف شعبه الوطنية والقومية، وبالمعايير الاجتماعية، هو المدافع عن قيمه الطبقية ضد القوى الطبقية المتسيدة على رأس البناء الفوقي. وبالضرورة أيّا كانت خلفية المثقف المنتج للمعرفة الفكرية والسياسية والاجتماعية، فهو يقع تحت قائمة المثقفين العضويين. بمعنى المثقف العضوي ليس ذات خلفية واحدة، إنما هو موزع وموجود على مساحة الطبقات والنخب الثقافية بتلاوينها واجتهاداتها المختلفة بما في ذلك المثقف الديني، مع الفارق الكبير بين المثقف والمثقف، فهناك مثقف ملتزم بالتنوير وإعلاء راية المعرفة، وتمثل مصالح وقضايا الشعب والوطن والطبقة، وهناك مثقف وقع في شرك وخطيئة الدفاع عن الحكام أو الوجه الظلامي للدين غير الإيماني، فشتان بين النموذجين وتداعياتهما وانعكاساتهما الاجتماعية والوطنية والقومية.

مع ذلك إذا حصرت النقاش في المثقف العضوي الوطني والقومي المتصل بالصراع العربي الصهيوني، فهو بالضرورة المثقف الملتزم بقضية الدفاع عن القضية المركزية للعرب، قضية الشعب الفلسطيني، وبغض النظر عن القطر العربي الذي ينتمي له، فطالما هو مقتنع وملتزم بالدفاع عن الحقوق والمصالح الوطنية والقومية، ومزج بين البعدين الوطني والقومي ديالكتيكيا، وانتصر لقضايا المسحوقين من الجماهير العربية، ودافع عن أبسط حقوقهم الديمقراطية والاجتماعية والقانونية، وبغض النظر إن نجح أو فشل، ورصد إنتاجه المعرفي في الحقل الذي يبدع فيه لانتصار العدالة السياسية والاجتماعية، فإنه بالضرورة مثقف عضوي.

وتتعزز قيمة وأهمية المثقف الوطني والقومي في زمن الهزيمة وانسحاق أهل النظام الرسمي العربي أمام إملاءات وبلطجة الإدارة الأميركية وربيبتها إسرائيل، لأنه في مثل هذه اللحظة يتوجب عليه تمثل دوره ومكانته كرافعة للصوت والفعل الشعبي. لا سيما أن الشعب هو النبع الحقيقي والأصيل للثقافة والمعرفة، بيد أن المبدع الحقيقي هو الفنان والمثقف، وهو أحد أفراد الشعب، والعاكس لقيم الشعب والأمة برفض الهزيمة، والدفاع عن الحقوق والحرية والكرامة، والاستقلال والعودة وحق تقرير المصير، ومواجهة الاستغلال وبطش الأنظمة وكاتم الصوت وكل أشكال الإغراء، وبيع الأوطان لقوى الشر والإرهاب الإقليمية والدولية وعلى حساب قضايا العرب الوطنية والقومية عمومًا وقضية فلسطين خصوصًا، لأنها قاطرة قضايا العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتحررية.

نعم من فلسطين تبدأ عملية التحرر الوطني، وهذا لا يعني تجاهل القضايا الوطنية والاجتماعية للشعوب العربية، لا بل العكس صحيح، فالربط العلمي والجدلي بين المسألتين الوطنية والقومية ينطلق من فلسطين، لأن بداية النهب والسلب لثروات الأمة وشعوبها بدأت من فلسطين مع مخرجات مؤتمر كامبل نبرمان وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو، وإطلاق وعد بلفور لإقامة "الوطن القومي" للصهاينة تجار الدين اليهودي وغيرها من الانتهاكات الخطيرة لمصالح العرب انطلقت من لحظة زرع الجسم الاستعماري الغريب، أي دولة إسرائيل الاستعمارية على أرض الشعب الفلسطيني، وعلى أنقاض نكبته، ولاستهداف مصالحه وحقوقه وثرواته واستقلاله وسيادته وتقدمه، ولتصفية الحساب التاريخي مع العرب والمسلمين ردًا على هزائم الصليبيين، وليس دفاعًا عن أتباع الديانة اليهودية أو من استعملوهم لخدمة أغراضهم.

إذن المثقف الوطني والقومي العضوي يبقى دوره ناقصًا، وبعيدًا عن الانتماء الحقيقي للثقافة الملتزمة في حال فصل ميكانيكيا بين المسألتين الوطنية والقومية. كما أنه لا يجوز تمثل دور ومكانة المثقف العضوي، إن لم يتخندق ويبقى في المواقع الأمامية للدفاع عن قضايا الشعب والأمة، لأنه لا يكون مثقفًا من يعتبر نفسه فردًا عاديًا من الشعب. نعم بالمعنى الاجتماعي المثقف إنسان، وجزء من الشعب. لكنه عندما امتلك ناصية المعرفة والثقافة وتبوأ دوره الافتراضي الريادي، انتقل ذاتيًا وموضوعيا إلى مستوى آخر، وباتت عليه التزامات نوعية، وأكثر مسؤولية تجاه الشعب والأمة والإنسانية.

صحيح المثقف نتاج المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، ويشهد صعود وهبوط الصراع الاجتماعي والقومي، ويعاني من استبداد الأجهزة الامنية. بيد أنه إنسان مختلف، وله أدوار عدة لا تقتصر على التبشير، والتنظير من برج عاجي، بل عليه أدوار أخرى، أولها الالتحام مع حركة الشعب المدافعة عن الحقوق. لا سيما أنه هو ربانها؛ ليس هذا فحسب، بل وتقدم الصفوف لمواجهة التحديات، لأن النكوص والمراوحة في المكان، ورفع اليد لله لينزل من السماء حلولا، لا يستقيم مع هوية ومكانة المثقف العضوي.

وفي زمن الانحدار والهزيمة وغياب البوصلة تتعاظم مهمة المثقف العضوي الفكرية والمعرفية والكفاحية. صحيح قد يفشل أو ينجح لكنه بمواصلة العمل والتخندق في خنادق الكفاح الأولى لبلوغ الأهداف التكتيكية والاستراتيجية بغض النظر عن الزمن الذي تستغرقه العملية الكفاحية، وقتئذ يرتقي لدوره ومكانته.

فلسطين والدول العربية وشعوبها كلها تحتاج إلى استنهاض الحالة الثقافية وارتقاء المثقفين لمستوى اللحظة التاريخية وتمثل دورهم بالتلازم مع استنهاض حركات الكفاح الشعبي، وإعلاء شأن المشروع القومي العربي التنويري، لأن نهوضهم يمثل الرافعة الأساسية للخطوة الأولى للخروج من نفق الأزمات والهزيمة واستلاب إرادة الشعوب والشروع بالتحرر الوطني والقومي.