كان إنعقاد الدورة الأولى للأمانة العامة لمؤتمر الشعب العربي في تونس العاصمة في 21 و22 شباط / فبراير الماضي بالتلازم مع ذكرى الوحدة العربية الأولى الـ 60، يحمل الدلالة العميقة لتلك التجربة المميزة، على كل ما رافقها من ثغرات ونواقص أدَّت لفشلها. ولم يكن عقد الإجتماع مكرسًا للجانب الشكلي، إنَّما كان على تماس مع جوهر ومضمون الفكرة والتجربة، وإستلهام دلالاتها ودروسها التاريخية، لتشكل بوصلة ومرشد عمل للمؤتمر.
وعلى أهمية العلاقة الجدلية بين إنعقاد الدورة الأولى وذكرى الوحدة العربية، لما بين الظاهرتين من عمق الروابط، تملي الضرورة إستحضار تجربة الوحدة القوميَّة الأولى وإعادة تذكير الأجيال الجديدة بأهميتها السياسية والإقتصادية والأمنية والثقافية / التربوية والقانونية والقيمية والأخلاقية، ومن خلال ذلك التأكيد على ضرورة إستعادتها بشروط ومحددات أكثر واقعية ومسؤولية، ولتلعب دور الرافعة لعملية النهوض القومي، والرَّد على حروب الردة الإستعمارية والتكفيرية، التي مزقت وحدة شعوب ودول الأمة من الوريد للوريد بإستعمال السلاح الديني والطائفي والمذهبي والأثني. وبالتالي إنقاذ الأمة العربية من المستنقع الآسن، الذي ترزح فيه نتاج الهجمة الشرسة، التي تتعرض لها، ووضع شعوبها ودولها تحت الشمس كمنارات حاملة للعلم والمعرفة والحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الإجتماعية والتطور الصناعي والزراعي والإقتصادي عمومًا المواكب لروح العصر وحاجات شعوب الأمة.
مازالت ذكرى الوحدة العربية الأولى بين مصر وسوريا الـ 60 حاضرة ومؤثرة في السجل القومي العربي. وستبقى كذلك، هذة الوحدة التي وضع مداميكها الرئيسان جمال عبد الناصر وشكري القوتلي في دمشق في ال22 من شباط/ فبراير 1958، لم تكن وحدة عفوية، ولا إرتجالية، وليست إندفاعًا عاطفيا فقط، ولكنها جاءت نتيجة الحاجة الضرورية لشعوب الأمة، وإستجابة من القيادات لإرادة شعوبها، وإنعكاسًا للروابط القومية والتاريخية واللغوية الجامعة، وإنسجامًا مع اللحظة التاريخية الملازمة للإعلان عنها، حيث كانت تعيش شعوب ودول الأمة العربية جميعها والعالم الثالث برمته لحظة نهوض عامة، وفي ذات الوقت تتلاشى وتغيب الشمس عن الإمبراطوريات الإستعمارية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، وردًا على إقامة دولة إسرائيل الإستعمارية على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني، ودفاعًا عن الأمن الوطني والقومي.
وفشل تلك التجربة في أيلول / سبتمبر 1961 نتيجة الأخطاء والمثالب والعقبات، والسلوكيات والممارسات الخاطئة لقيادتها وأجهزتها ومؤسساتها القومية، وتمكَّن قوى الأعداء من العبث بها ومحاصرتها، لا يعني أنَّ تجربة الوحدة ماتت وإندثرت، كما لا يعني التسليم بالعجز وإملاءات الأعداء في الداخل والخارج. لأنَّ شروط الوحدة القومية أعظم وأقوى من عوامل التفكك والتشرذم، رغم تجذر النزعة القطرية، وتعدد النزعة الهوياتية الضيقة (الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية) في الزمن الحاضر، وتعاظم وإتساع الخطر والهجوم الإستعماري الأميركي والإسرائيلي والفارسي، غير أنَّ تلك العوامل تضمحل وتتراجع أمام عوامل الوحدة والتكامل مع وجود الأدوات الوطنية والقومية الحاملة للمشروع القومي النهضوي والديمقراطي.
ولعلَّ القراءة الموضوعية للتجربة المريرة، التي تعيشها راهنًا شعوب ودول الأمة العربية في العقد الأخير، تؤكّد لإي قومي بأنَّ الرد الطبيعي على مشاريع التفتيت والتمزيق لإفرازات مؤتمر كامبل نبرمان 1905/1907 وإتفاقية سايكس بيكو 1916(الدولة الوطنية) يتمثل في التمسك بالشعار القومي العربي، وبناء مقومات التكامل السياسي والإقتصادي والعسكري والإجتماعي والثقافي التربوي بين دول الأمة، وبناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها، دولة المساواة والديمقراطية الحقيقية والعدالة الإجتماعية.
الذكرى الـ 60 لقيام دولة الوحدة، هي فرصة أمام كل القوى الوطنية والقومية والديمقراطية لإستعادة عافيتها، وإستنهاض ذاتها من بؤس الأزمات، التي تعيشها، وحمل معول التطهير للأدران والأمراض، التي تضرب عميقًا في بنائها ونسيجها الداخلي، والتخلص من لوثة المراوحة والتردد والخوف من قوى الإسلام السياسي المأجورة لإنقاذ الذات والشعوب والأوطان من دوامة الهزيمة.