تسيل كثير من الأحبار في نقد سياسات الدول، وتصل الأمور أحياناً لحد الاتهام بالخيانة أو العمالة لهذا المحور أو ذاك.
وفي ظل الصراع المحتدم في الإقليم ومنطقتنا العربية على النفوذ والاقتصاد والتمدد والهيمنة سواء تحت مظلة الطائفة المحمولة على الشعارات، أو الهيمنة والاستبداد أو لمنع تمدد الأخر، فإن اتخاذ موقف من قبل الفلسطينيين الذين باتوا الحلقة الأضعف كثيراً ما يقابل بالريبة أو الاستنكار أو الهجوم، وما يستتبعه ذلك من اتهامات أو تشنيعات أو عقوبات.
إن النقد لسياسات الدول من قبل القيادات الفلسطينية يتخذ خطاً حذراً يوازن بين المكاسب والمخاسر، ويوازن بين حجم التقدم المطلوب والدور المرغوب لعبه من الدولة، استناداً لتاريخها في دعم أو حجب الدعم عن الفلسطينيين.
والنقد (سواء الايجابي أو السلبي) لسياسات الدول الأخرى في ظل معادلة الصراع والمكاسب والمخاسر والقيم تتحدد أساساً بالموقف من القضية الفلسطينية، ومن القيم العالمية بالحرية والعدالة، ونقصد هنا الموقف العلني أساساً، دون إهمال التحركات السرية التي تهدف للالتفاف على القضية الفلسطينية، أو رفع الشعارات العريضة المؤيدة، دون أن يلوح بالأفق رنين أي نوع من أنواع الدعم اللّهم إلا إذا كان دعماً لتيار أو فصيل فلسطيني بعينه، ولهدف مريض.
إن المصلحة العربية والفلسطينية في ظل الصراع المحتدم في منطقتنا يقتضي الحذر والذكاء السياسي كما يقتضي عدم التفريط بعروبة القضية، باعتبارها القضية المركزية للأمة ما يستدعي جمع الجماهير العربية من حولها، وهي الجماهير العريضة التي لطالما كانت تقف بمثقفيها وأدبائها ومفكريها وكادحيها في صف فلسطين ظالمة أو مظلومة، لا تهتم بمقدار اقتراب أو ابتعاد نظامها السياسي (حكومتها) من فلسطين، وهي الجماهير التي قدمت الشهداء تلو الشهداء منذ ثورة 1936 بل وما قبلها، وما تلاها نصرة لقلب الأمة العربية والإسلامية، فلسطين، ونصرة لإخوانهم في الدم .
إن انتقادنا كفلسطينيين كُتّاباً ومدونين لسياسات أو مواقف هذه الدولة أو تلك هو عمل مقبول ما دام ملتزماً بالموضوعية والعلمية وأدب الحوار، ولكن من المهم أن ندرك فروقات فهم أدب الحوار بين المتحاورين فهو عندنا في ساحتنا الفلسطينية كبير وقد لا يصل لمثل هذا المستوى المتقدم من النقد عند الآخرين .
لذا وجب عندنا مراعاة زوايا محددة وخطوط حمراء وعدم المس بها، سواء تلك الخاصة بالدولة، أو بالخطوط العامة الثابتة لدي على الأقل وهي تلك المتعلقة بالإخوة العربية الراسخة، وبالتواصل الجغرافي الذي لا فكاك منه، وبمركزية القضية قضيتنا، وتضحيات إخواننا العرب معنا، ومساهمات قواتهم، ومواقف حكوماتهم الايجابية في عديد المراحل، فلا نغرق بالشتائم والاتهامات والتحقيرات..
يجب ألا نلجأ للشتائم مطلقا، فنعكس الإساءة المحدودة من أفراد بدولة شقيقة ما على جميع الشعب أو الأمة، بجعل الخاص والموضعي عاماً وشاملاً للجماهير، فنبدأ بإطلاق الأحكام والشتائم المعيبة.
يبدأ السير في مركب التحقير - وهو فكر متخلف- لمجرد الاختلاف في موقف معين، هذا الموقف الذي من المحتمل تغييره، منا أو منهم، وبالتالي يتغير رأينا، وهو الرأي المرتبط بمقدار الوعي وبالمصلحة وبالمستجدات والمتغيرات.
إن الصراع المحتدم على جسد الأمة العربية من قبل المحور الذي تتزعمه إيران، وفكرة تصدير الثورة وإقامة (الدولة الإسلامية) هي الفكرة المركزية في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي بنص الدستور من حقها أن تتدخل في كل دول العالم (لحماية المحرومين)! والمقصود غالباً الشيعة من مختلف المذاهب، وتحت مظلة فكرة (ولاية الفقيه) أي الحاكم مطلق الصلاحيات الدينية والدنيوية وهي فكرة وتوسع سياسي يلقيان قبولاً في المنطقة العربية من دول وشخصيات وأحزاب، كما يلقيان -الفكرة والسياسة- رفضاً ومقتاً من دول وأحزاب ومفكرين لارتباطها بالاستبداد والهيمنة ورفض الآخر.
إن النقاش في الإطار الفكراني "الإيديولوجي" لا يعني رفضاً لكل المواقف السياسية لصاحب هذا الموقف الإيديولوجي ما هو تخلف، ففي حين تتقدم إيران الدولة بمواقفها نحو فلسطين كل فلسطين وليس لدعم جهة ضد أخرى وبلا تدخلات ملحوظة في جسد الأمة فإن مبرر الرفض أو القبول للأيديولوجية قد لا يعكس نفسه على موقفنا السياسي، فنتفق في مساحة مع الحكومة الإيرانية ونختلف في مواقف أخرى، وهذا حقنا، ما دامت القضية الفلسطينية واستقلالية القرار ووحدانية التمثيل هي مسوغ الرأي لدينا.
يقول المفكر العربي الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله: ان التخلف "ينبع من طبيعة تشكيل الشخصية التي امتلأت بالثقافة السلبية (إنسان ما بعد الحضارة)، التي دائمًا ما تدعو للاستسهال وعدم الجدوى، مما أدى إلى ضعف القدرة التحليلية في فهم التعقيدات الحضارية وبنائها بما يسميه (الأفكار المميتة)"
ويقول المفكر العراقي على الوردي : أن " الظروف الاجتماعية والبيئية تشكل الأخلاق. ولهذا فمطالبة الناس باتخاذ أنماط معينة من الأخلاق هو ضرب من العبث إن كانت البيئة الحاضنة لا تدعمه".
لذا نقول نحن أن ما نحتاجه هو تمزيق ثوب التخلف والاستسهال للشتم والاتهام والتحقير، والإعلاء من شان الثقافة الايجابية لا السلبية، والتحلي بأخلاق القرآن العظيم، والتأثير في بيئتنا ما هو جهد دائم متواصل بثبات في مسار عميق وطويل لا يتوقف.
في الجانب الآخر من الصراع نحو المحور السعودي وتحالفه، والذي يتعدى عليه كثير من الكتّاب فلا ينظرون للكم الهائل من الإصلاحات الفكرية والمجتمعية فيه كما يفعلون مع إيران كمثال، ويظلون منشدّين لمسلّمات قديمة تخضع لقلة الدليل من مثل "استسهال" إتهام المذهب ككل، أو أئمة بعينهم، لينعكس الاتهام سياسياً على النظام، والى هنا قد يكون النقد مفهوماً أن التزم بضوابط الحوار، أما أن يتمدد ليطال كل الشعب! فيصبح السعودي أو الخليجي عند الكثير من الشتامين وفي ظل حرب الإشاعات وكأنه من كوكب آخر، فإننا بذلك نخرج عن حقيقة النقد الصريح للسياسات والمواقف وليس للأشخاص بذواتهم ويخرج عن منطق صون المصلحة والأخوة والوعي، وفتح الأبواب.
يقول المفكر العربي الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله: "العرب والمسلمون ليست أزمتهم الحضارية بسبب عدم امتلاكهم الخامات، أو لفقر في كنوز أرضهم، بل ما عندهم يفوق الحاجة «الإنسان والتراب والوقت» لو أحسنت الاستفادة منه في تطوير البلاد، ولو عادت ثماره لكل أبنائه، وليس لفئة قليلة تعبث به أو للاستعمار يفتح لها باب نهبه، واستثماره. وهذه العناصر الثلاثة لا بد من أن يضمها العامل الأخلاقي"
إن تحقير الأمة والتقليل من شأنها وأقصد الأمة العربية والإسلامية هي آفة زرعها الاستعمار الغربي وأحذيته بالمنطقة، الذين يستعذبون شتم الذات والإعلاء من شان الحضارة الغربية وكأننا بلا قيمة ولا فكر ولا مبدعين ولا ثقافة ولا حضارة!
أحذية الغرب في منطقتنا يستغلون أي سانحة أو أزمة في قلب الأمة – والجائز الاختلاف معها سياسيا- ليزيدوها حطاماً حضارياً، وشعبياً، ويشعلون فيها نار الفتنة، بل ويتفننون في شتم الفلسطيني أو الأردني أو المغربي أو الخليجي أو السعودي أو الإيراني أو السوداني ليس لقلة فهم أو وعي هنا، وإنما بهدف وغرض خبيث وهو إبقاء الأمة في مرحلة الانحسار والذِلّة والانكسار لذلك تُستثار دوماً الحمية والعصبية والطائفية والإقليمية والتحقير لتقف عمداً في وجه أي اقتراب أو استنهاض للأمة التي نحن منها بحكم الجغرافيا والتاريخ والدين والحضارة المشتركة.
إن المواقف الجذرية "الإيديولوجية" برفض الاستبداد والهيمنة والاستعمار والاستتباع لفكرة أو سياسات نظام، وفرض الرأي بقوة السيف أو بالشعارات التي تتخذ من فلسطين ذريعة أو تلك التي تتحايل على فلسطين وتلتف من خلف ظهرها هي مواقف رفضوية نراها عادلة ومفهومة، أما إسقاط الجذري والإيديولوجي على كل موقف سياسي وليطال الجماهيري والأمة كلها، فإنه لن يفهم من الناس إلا بمنطق العداء للشعب، والنظام والفكرة معاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها