أجاز الرَّئيس الأمريكي ترامب لنفسه أن يستعمر القدس ويعطيها لمن لا يستحق ويعلنها عاصمة لأطول وأخطر وأبشع احتلال في التاريخ الحديث، وفي خطابه المليء بالجهل التاريخي وبالحقائق يكرس ويعمق الاحتلال، ويشن عدواناً على رائعة المدن وحاضرة التاريخ وأقدمها، ويطلق فاشية أمريكية استيقظت في عهده على مدينة القدس مهوى الأفئدة وملتقى الحضارات ومهد الرِّسالات.

ويعتقد الرَّئيس الأمريكي، أنَّه رجل الكاوبوي الذي يستطيع أن يجتث روح القدس ومكانتها ورمزيتها كما اجتُث سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر بالقتل والتطهير، واقتلع تاريخهم وإنسانيتهم وشطبهم من الماضي والحاضر والمستقبل.

ما لم يسمعه الرَّئيس الأمريكي بعد أن أصدر قراره المشؤوم بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصُّهيوني، إن للأشجار في القدس أسماء فلسطينية، وللصلوات ترانيم وآيات فلسطينية، وأنه كلما أدار وجهه يجد جبل الزيتون يسيل زيته ليغسل المؤمنين به رؤوسهم تبّركاً به، وأن الهواء القادم من باب العمود يحركه الهواء القادم من جبل المكبر، وصوت الآذان وقرع الأجراس تصدح في السماء وتهبط إلى وادي سلوان ليجري الماء وتتم الصلاة بأيد ودعوات فلسطينية.

ما لم يعرفه الرَّئيس ترامب حكاية الكنعانيين المرابطين على بوابات القدس الثمانية وفوق أسوارها الثلاثة العالية، وأن في أوديتها الخمسة رماد العماليق وحجارة الصوان تقدح ناراً منذ الأزل، ونفوس تحلق من وادي قدرون إلى وادي الجوز تستقطب الأمطار وتسقي العطاش، وتغازل البحر وتزرع الشجر.

لم يقرأ الرَّئيس ترامب ما كتبه ابن خلدون عن الحضارة اليبوسية في فلسطين ، ولم ير كيف وحّد الشهيدان عبد القادر الحسيني وفيصل الحسيني زمن القدس في ألوان الكوفية، ولم يقرأ اللغة العربية في كتاب خليل السكاكيني ممهورة على عظام البشر، لم يأتِ ترامب إلى القدس العربية مع مئات الحجيج ليراهم عبر كل العصور يؤدون العبادة ويزرعون الزيتون وينقشون أسماءهم على صخورها، ويشربون من عيون ينابيعها، ويدافعون عن قدسيتها، ويواجهون الغزاة والطامعين والمحتلين ويصمدون ويموتون ولا يرحلون.

ما لم يسمعه ترامب ما قاله الرَّئيس أبو مازن في خطبته الأخيرة بأن القدس عاصمة دولة فلسطين الأبدية، وأنه لا دولة بدون القدس، ولا سلام ولا استقرار في المنطقة وفي العالم دون القدس. أنها درة التاج وليست مدينة أمريكية يعطيها لمن يشاء، يستبيح حرمتها وقدسيتها. مفاتيح القدس مع الفلسطينيين فقط، وإن قرارات ترامب وقرارات الكونغرس الأميركي هي إرهاب دولة منظّم ومخالف للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وإننا هنا باقون على مصاطبها وفي جوامعها وكنائسها وفي حاراتها حراساً على روحها وأرواحنا وأرواح المؤمنين في العالم.

ما لم يسمعه ترامب صوت الحجارة والمواجهات، صوت الشهداء والمرابطين والمدافعين عن القدس هنا وفي كل أرجاء الدنيا، انتفاضة التاريخ والآيات والأنبياء والأولياء، دماء وغضب، جرحى ومعتقلون، أطفال ونساء، يهتفون للقدس المدينة الفلسطينية العربية الإسلامية المسيحية، لم يسمع ترامب صدى صوت ياسر عرفات: "على القدس رايحين شهداء بالملايين".

ما لم يسمعه ترامب قرع أجراس الكنائس في أعياد الميلاد المجيدة، ونزول اليسوع الفلسطيني عن الصليب حاملاً بشارته الثورية الكونية، أشجار تضيئها أرواح الشهداء يحملون نعوشهم من باب الخليل حتى باب الساهرة، ومن المسجد الأقصى حتى كنيسة المهد، المسيحيون يؤذنون في الجامع، والمسلمون يتعمدون في الكنيسة وها هي مريم العذراء توزع الهدايا على الأطفال الذين كبروا في ثنايا المدينة.

ما لم يسمعه الرَّئيس ترامب صوت الأسرى خلف شبابيك وجدران سجن المسكوبية، المشبوحين المقموعين المهانين، لو نظر إلى عيونهم المعصوبة، وأياديهم المكبلة، ورؤوسهم المغطاة بأكياس سوداء قذرة، لو سمع ضجيج إرادتهم وملامحهم في الزنازين وغرف التحقيق، لأدرك أنه أصدر قراراً لإطلاق وحش مفترس في منطقة الشرق الأوسط، لا يعرف الرحمة، ولا يؤمن بحقوق الإنسان وبالديمقراطية، ولا يعترف بالآخرين، ويجرد البشر من آدميتهم، ويمارس العنصرية، ويتلذذ بالقتل والتعذيب ورائحة الدماء.

لا يعرف ترامب أهل القدس: "الأسير الضرير علاء البازيان الذي لا يبصر إلا القدس، والأسير سامر العيساوي وهو يخوض إضراب الجوع والكرامة والحرية، وفاطمة برناوي أول الأسيرات المنتفضة من حارة الأفارقة بالقدس ضد الاحتلال، وأيمن الشرباتي الملقب بالمواطن يرفع علم فلسطين فوق أسوار سجن نفحة، والشهيد عمر القاسم يعود من السجن إلى القدس محمولاً على أجنحة الملائكة، والطفل الشهيد محمد أبو خضير الذي خطفوه وأحرقوه حياً، ولا زالت روحه تحرك الرياح والضمائر والعقائد وأناشيد المدارس".

لم يسمع ترامب نشيد الشهيد الثائر الشيخ فرحان السعدي من على مشنقة سجن المسكوبية في عهد الاستعمار البريطاني، وقاسم أبو عكر الذي قتله الجلادون الإسرائيليون في الزنازين وهو يقول: "سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا، ومنذ ذلك الوقت النجوم في القدس لا تضيئها إلا الدماء".

لم يشاهد ترامب الشهيد المقعد إبراهيم أبو ثريا سكان قطاع غزة المبتور القدمين، أعطته الأرض أقدامها ليرفع علم فلسطين عالياً وهو يقول: "نحن شعب لا نستسلم"، قتلوه برصاصة في الرأس فرفعته الأرض من جديد أعلى وأعلى.

لم يسمع ترامب أغاني أحمد أبو سلعوم، ومصطفى الكرد، في شوارع وساحات القدس، ولم يقرأ ما كتبه شاعرنا الكبير راشد حسين: "كانت الساعة في القدس صلاة، شهيداً، جريحاً، أسيراً، صموداً، ودقيقة، كانت الساعة طفلاً سرق الرصاص رجليه، ولما ظل يمشي سرقوا طريقه، كانت الساعة في القدس ميلاد الحقيقة، كانت الساعة في القدس إنجيلاً، قرآنا، شجرة ميلاد مضيئة، مسيحيون، مسلمون، رابطة دم وهوية وثيقة، لن يفهم سيد البيت الأبيض الكلمات العتيقة، بين السماء وبين الشجر في النفوس الطليقة".