"بلفور" أقبحُ الأسماء في ذاكرة شعبنا الفلسطيني، وأُمَّتنا العربية، بل وفي ذاكرة كلِّ الأحرار في العالم، ومنهم اليوم البريطانيون الذين جاؤوا من لندن مشيًا على الأقدام في رحلة استغرقت 147 يومًا ليقدِّموا اعتذارًا للشعب الفلسطيني عمَّا فعله بهم "وعد بلفور" البغيض، وعد الجريمة والخطيئة والمظلمة الكبرى الذي أدَّى إلى اقتلاعهم من أرض وطنهم، من حقول مزارعهم وبيوتهم وحياتهم، ودفع بهم بعد مجازر مروّعة من كفر قاسم إلى دير ياسين إلى الطنطورة وغيرها، إلى دروب التشريد واللجوء والخيام التي عصفت بها طويلاً رياح النّكبة بصريرها المعذب، وبِليلٍ هيمنَ عليها بعتمةٍ لا مثيل لها، حتى جاءت شُعلَةُ الحُريّة التي أضاءتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عام خمسة وستين من القرن الماضي.

كانت شعلة الحُرّيّة هذه، هي شعلة التحدي الفلسطينية الأولى "لبلفور"، أولاً أنَّ فلسطين وطن الماضي والحاضر والمستقبل، وطن التاريخ والحضارة في رسالتها الإنسانية، لا "وعد" بوسعه أن يلغيها برغم أنَّه جاء بدبابة، وتمدَّد بالمجازر ليفعل ذلك..!! فلسطين أبقى وشعبها شعب الذاكرة التي تنبض بالحياة دوماً ولا تعرف يأساً ولا يعرف الإحباط لها طريقاً. بين عامَي 1917 و1965 ثمانية وأربعون عاماً لم يستطع "وعد بلفور" وبعد أن تبجَّح بحضوره الإسرائيلي العنيف أن يفعل شيئاً مع الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ومع روحها التي لا تزال هي روح التحدي والمقاومة روح الحياة والأرض روح زيتونها الذي هو دلالة والصمود والثبات والعطاء، وروح زيتها الذي يضيء ولو لم تمسسه نار.

هذه هي فلسطين بروح شعبها، هذه هي حقيقتها وحقيقة حضورها العصي على الإلغاء والتدمير والضياع، إنَّها أيقونة الوجود الإنساني والحضاري، حتى وهي لا تزال تمشي في دروب الآلام التي شقَّها "وعد بلفور" القبيح والتي لا يزال يُطيلها، ليس فقط الاحتلال الإسرائيلي وحده، بل أيضاً هذا التغافل الدولي عن إقرار الحق والعدل والكيل بمكيال واحد تجاه قضايا الشعوب المناضلة في سبيل حريتها وكرامتها. التغافل الذي ما زال يسمح لإسرائيل أن تكون دولة فوق القانون بل وفوق الشرائع كلها السماوية والأرضية!!

مئة عام من وعد الجريمة، هي مئة عام من تاريخها المشين والذي على نحو بالغ الغرابة (..!!) تريد بريطانيا "تيريزا ماي" الاحتفال به رغم أنَّ أبسط قواعد الحكمة تقول: إن "بُليتم فاستتروا" وهذا ليس شأن المؤمنين فحسب، بل هو شأن كل مَن يسعى للخلاص من ذنوب مخزية، ويرجو تنوّراً وعطاء إنسانياً يجعله في راحة ضمير، لكن على ما يبدو أنَّ "ماي" ليست في هذا الوارد، وباحتفالها بوعد الجريمة قد اختارت مكانها في تاريخ الازدراء على أقل تقدير.

ولأنَّنا أبناء حضارة وتنوّر، قبلنا اعتذار البريطانيين الأحرار الذين جاءوا مشيًا على الأقدام من لندن حتى هنا، وننظر بعين الرضا والتقدير إلى رسالة الشخصيات البريطانية من مواقع مختلفة والتي حثوا حكومتهم من خلالها على الاعتراف بدولة  فلسطين وهو ما نراه اعتذاراً آخر يسعى لتصحيح الخطيئة التي ارتكبتها خارجية بفلور بالوعد القبيح لوزيرها.

ونعم، وكما قال الكاتب البريطاني "كيفين ماجور" في مقال له بصحيفة "الميرور" الانجليزية، المملكة المتحدة مدينة للفلسطينيين "بدولة"، على بريطانيا إذًا أن تدفع دينها لشعبنا، وهذا أقلُّ ما يمكن أن تفعله لمحو الظلم الذي سبَّبه لنا وعد بلفور القبيح.