قبله بأربع وعشرين ساعة اعتلى بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الاسرائيلية منبر الأمم المتحدة متحدثا بعنجهية وغرور ومستعرضا ما يزعم من إنجازات علمية حققتها اسرائيل ويحتاجها العالم، وكأن العالم لا يزال في حقبة العصور الوسطى واسرائيل هي واحة الاشعاع العلمي فيه، مصوراً اسرائيل كعمود فقري للحضارة الغربية والنهضة التكنولوجية والعلمية العالمية، منتقداً كعادته قرارات الأمم المتحدة تجاه اسرائيل وداعيا لتغير مفاهيم الشرعية الدولية ومنح اسرائيل شرعية خاصة تقوم على حاجة الكون لوجودها عاكسا واقع وعقلية أيديولوجيا الأبارتهايد الصهيونية التي تحكم دولته والتي تستند لمفاهيم شعب الله المختار العنصرية التي رافقت الوجود التاريخي اليهودي وكانت وبالا عليه .

وفي خطاب استراتيجي للرئيس الفلسطيني من المؤكد أن له ما بعده، ترك الرئيس محمود عباس دبلوماسيته المعتادة جانباً، ووصف بكل موضوعية ودقة همجية وكولونيالية وعنصرية دولة اسرائيل، متخليا عن النص المكتوب في الكثير من حديثه ومفعما بحالة من الاحباط واليأس من الواقع السياسي الدولي، في الانتصار لأعدل قضايا الانسانية، ووضع الرئيس الفلسطيني الأمم المتحدة والعالم أمام الصورة الحقيقية لدولة اسرائيل، ولواقع مسيرة التسوية التي دخلت في حالة موت سريري منذ زمن، وقد خرج في كثير من الفقرات عن النص المكتوب ليوصل رسائل مغلفة بالتشكيك والنقد لنزاهة الراعي الأمريكي، وأدان تصريحات السفير الأمريكي دون أن يسميه تجاه تعريف الاحتلال لأراضي الضفة ولما يعرف بصفقة القرن المبهمة، وهنا لابد أن يكون لما قدمه الرئيس ما بعده، فهو الذي أكد للجميع بأنه لا يوجد حلول وسط بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة، وهو ما يعني أن الرئيس أدرك أن التسوية المقترحة لن تستند في كثير من جوانبها الى الشرعية الدولية ممثلة في حل الدولتين.

وقد جاء الرد الفلسطيني قبل أن تطرح الادارة الأمريكية بما سمي بصفقة القرن، والمعتمدة بشكل أساس على الرؤية الاسرائيلية للحل حسب تصريحات متعددة لمسؤليين أمريكيين، وعلى صعيد أخر، والرسالة موجهة لأمريكا واسرائيل أن القيادة الفلسطينية محكومة بارادة شعب فلسطيني يتعدى حدود الضفة والقطاع التي رسمتها أوسلو ممثلا، بالكل الفلسطيني في الشتات وداخل الخط الأخضر كذلك ممثلاً بالمجلس الوطني الفلسطيني، الذي أعاد التأكيد على أنه هو برلمان الشعب الفلسطيني في إشارة إلى أن اتفاقات أوسلو أصبحت وراء ظهر القيادة الفلسطينية، وكذلك خطوة استباقية من الرئيس لدرء مزيد من الضغوط المتوقعة مستقبلاً على القيادة لتمرير تسوية مجحفة بالحقوق الفلسطينية، وهو ما يعكس حجم الضغط المتزايد على القيادة الفلسطينية من الطرف الأمريكي والذي تقابله القيادة بالرفض والصمود وليس أدل على ذلك من صيغة الخطاب الرئاسي التي لم تنجح الادارة الأمريكية على ما يبدو في التخفيف من حدته رغم محاولاتها المحمومة التي استمرت حتى آخر لحظة .

وفي تحيته للشعب الفلسطيني الصامد وإشارته لتصدي المقدسيين بجباههم لسياسة اسرائيل بمحاولتها فرض البوابات الالكترونية لهو رسالة لاسرائيل أن الشعوب قد تصبر على الظلم ولكنها لا تقبله وتنتفض بوجهه لا محالة وحينها تقف قيادته خلفه داعمة ومساندة وهو ما قد يدعو اسرائيل للتريث والتفكير طويلاً في تماديها تجاه القدس والضفة الغربية وقطاع غزة .

لقد وجه خطاب الرئيس ضربة دبلوماسية متعمدة للعنجهية الاسرائيلية ولاستراتيجية إدارة ترامب القائمة على إشاعة الأمل الوهمي للشعب الفلسطيني، عبر خطوات تحسين الواقع الاقتصادي للفت انتباهه عما تقوم به اسرائيل من فرض واقعها السياسي الاستيطاني على الأرض وصولاً إلى مرحلة إقراره باتفاقات تسوية دائمة تنهي الصراع طبقا لرؤية اسرائيلية بحته .

ما بعد خطاب الرئيس الفلسطيني وما حمله من رسائل للادارة الأمريكية المنحازة لاسرائيل، وللعالم المتغاضي عن سياسة اسرائيل، السؤال الجوهري الوطني الآن كيف لنا كفلسطينيين استثمار الخطاب بشكل وطني بعيداً عن الحزبية والفصائلية لمواجهة ما يتم تخطيطه لمستقبل قضيتنا في الغرف المغلقة، خاصة بوجود حكومة اسرائيلية متطرفة لا ترى أحد ولا تقبل بأي حلول منصفة لانهاء الصراع، وكذلك بوجود شخصية كترامب بتلك العقلية الرأسمالية والمكيافيلية والغارق في النرجسية .

فنحن اليوم كشعب فلسطيني أمام مفترق طرق حاسم في قضيتنا يتطلب منا التوحد والحكمة إلى أقصى درجة ممكنة لاستخدام كل أوراقنا السياسية وتفعيل كل قوانا لاكتساب المزيد من الأوراق مستلهمين النموذج الصحيح من تجاربنا التاريخية الناجحة، وعلينا أن ندرك أن طريق الحرية والاستقلال ليس بقصير لأننا نخوض صراع متعدد الأوجه مع عدو مؤدلج عقائدياً وعنصرياً حتى النخاع ولايرى أى مكان للآخر بجواره.

 

بقلم : عبير عبد الرحمن ثابت