لست أدري، إن كان خطاب الرئيس محمود عباس أمام مجلسي العموم واللوردات البريطاني، بشأن المفاوضات الجارية مع إسرائيل تعبير عن دهاء ومكر السياسي المحنّك، أم أنها تعبير عن قناعة بأن ثمة إمكانية لموافقة إسرائيل على تحقيق السلام.
يوم الاثنين قبل الماضي التاسع من الشهر الجاري، وفي خطوة غير مسبوقة في دولة الانتداب، التي ساهمت أكثر من غيرها في إنجاح المخطط الصهيوني الذي أدى إلى تهجير الفلسطينيين وإقامة دولة إسرائيل، قال الرئيس عباس "إن المفاوضات التي استؤنفت الشهر الماضي تتناول قضايا الحل النهائي (القدس، الحدود، المستوطنات، اللاجئين، الأمن، الأسرى)، وقد حددت فترة لستة أشهر للوصول إلى اتفاق شامل يتضمن كل المطالب وينهي الصراع. الرئيس يعرف ما الذي يدور في اروقة المفاوضات، وأكثر من غيره يعرف بأن إسرائيل، خلال ما مضى من جولات المفاوضات، تصر على مناقشة البند الأمني أولاً، بمعزل عن بقية الملفات، وأن مطالبها الأولية المتصلة بهذا الملف يستحيل الاستجابة لها بدون التضحية بالحقوق المتعلقة بملفي الحدود والدولة.
ويدرك الرئيس، أيضاً، معاني وأبعاد، وتداعيات السياسة الإسرائيلية الجارية وإلى أين تقود، كما أنه على الأرجح يدرك بأن الائتلاف القائم في الحكومة الإسرائيلية والترتيبات التي وقعت في حزب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لا تدع مجالاً للتفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق. أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه، وفق موقعه، المطلع على سير المفاوضات، وبالرغم من التزامه المعروف بخيار التفاوض والسلام مع إسرائيل، أكد في تصريح نشر في اليوم ذاته، الذي أدلى فيه الرئيس بخطابه أمام مجلس اللوردات والعموم، "إن فرص نجاح المفاوضات مع إسرائيل معدومة، وأنها إذا استمرت بهذا الشكل ستؤدي إلى كارثة سياسية". ورأى عبد ربه "أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي هما الوحيدان المستفيدان من هذه المفاوضات".
هذا التشاؤم بالنظر للمفاوضات ليس حصراً على عبد ربه، فأنا لم أقرأ تصريحاً واحداً لمسؤول، أو مواطن فلسطيني، متفائل بشأن إمكانية نجاح هذه المفاوضات، خصوصاً في ظل الوقائع والإجراءات الإسرائيلية التي لا تتوقف عن خلق المزيد والمزيد من العقبات، أمام إمكانية تحقيق اتفاق أي اتفاق سلام. والأرجح أن الإسرائيليين يكثفون هذه الإجراءات الصعبة والخطيرة لاستفزاز الطرف الفلسطيني، ودفعه نحو الإعلان عن وقف المفاوضات فيبدو على أنه الطرف الذي يتحمل مسؤولية فشلها، وهو ما يحاول الفلسطينيون تجنبه.
إذا كانت إسرائيل لم تتوقف عن الإعلان عن المزيد من المناقصات والمشاريع الاستيطانية، التي تعوّد الفلسطينيون على ما يبدو، على تحمّل نتائجها، فإن السياسة الرسمية والحزبية الإسرائيلية، ذهبت إلى الملف الأصعب، والذي يستفز مئات ملايين المسلمين، وهو موضوع القدس.
عبد ربه أشار إلى أن إسرائيل تقوم بانتهاكات واسعة على أوسع نطاق من بناء استيطاني، ومصادرة أراض، إلى انتهاك يومي للمسجد الأقصى وتعطي ضوءاً أخضر لعصابات المستوطنين وتشجعهم وتدعمهم لخلق واقع جديد في الأقصى، على غرار ما تم في الحرم الإبراهيمي في الخليل". في واقع الأمر فإن إسرائيل تعاملت بالتدريج مع قضية المسجد الأقصى، فسمحت للمتطرفين اليهود، بالصلاة فيه، سراً وعلانية، وبمواصلة استفزاز الفلسطينيين، إلى أن أصبح الأمر، سياسة رسمية تستغل المفاوضات وتتغطى بها، لتحقيق ما ذهب إليه عبد ربه في تصريحه.
ففي مقابلة صحافية أعلن مفوض شرطة الاحتلال الإسرائيلي يوحنان دانينو، موافقة الشرطة على دخول اليهود إلى المسجد الأقصى، بصفته ساحات "جبل الهيكل"، واعتبر ذلك حقاً مضموناً لليهود لا يجوز النقاش فيه أبداً، مبدياً استعداد الشرطة لضمان تنفيذ ذلك الحق لليهود. تصريحات دانينو أجّجت عملياً وشجّعت الأصوات الاستيطانية اليهودية المنادية باقتحامات جماعية للمسجد الأقصى، خلال فترة الأعياد اليهودية ومن ضمن هؤلاء، أعضاء في حزب الليكود الحاكم، ورئيس بلدية القدس الغربية الذي دعا إلى مليونية يهودية تزحف نحو المسجد الأقصى.
في حديث الرئيس أمام مجلسي اللوردات والعموم، كان واضحاً، أنه لا يتجاهل ما ترمي إليه السياسة الإسرائيلية، سواء على الأرض، أو من خلال المفاوضات، وأنه يسعى وراء تطوير الموقف الدولي، خصوصاً، الغربي إزاء القضية الفلسطينية وربما التحضير، لإطلاق حملة التوجه إلى الأمم المتحدة مجدداً، في حال نجح الفلسطينيون في أن لا يصرخوا أولاً، جراء هذه السياسات الاستفزازية.
الرئيس تمنّى أن يأتي اليوم الذي تشهد فيه قريباً بريطانيا، التي لا تعرف سبباً لأن يسميها بالعظمى، وهي تعترف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران 1967، كما عبر عن تقديرها للخطوط العامة التي اتخذها الاتحاد الأوروبي حول المستوطنات، وقال "آمل أن تدخل هذه الخطوط العامة حيز التنفيذ في كانون الثاني 2014.
يوضح هذا التصريح للرئيس، أن السلطة خضعت للضغوط وربما بعض الوعود الدولية، حتى تستأنف المفاوضات مع إسرائيل، وأنها لم تكن وليست على قناعة بإمكانية تحقيق سلام معقول في ظل ما يشبه الاجماع الإسرائيلي على المضي قدماً في السياسة القائمة على العدوان ومواصلة الاحتلال.
العين إذاً، على المجتمع الدولي، وكسب الرأي العام، وإقناع بعض الدول، بالمنطق الفلسطيني، ونزع الذرائع من بعضها الآخر، وتمهيداً للانتقال بالملف إلى مؤسسات الأمم المتحدة. ولكن إلى أن تنتهي الأشهر التسعة المتفق عليها كسقف زمني للمفاوضات، ثمة إجراءات إسرائيلية خطيرة، لا يفيد معها الصبر، والانتظار، ولا تتعارض مجابهتها، مع استمرار المفاوضات العبثية الجارية. عبد ربه يتحدث عن كارثة سياسية، وهو محق في هذا، فهل ستكتفي المنظمة والسلطة، والفصائل، بتقديم الشكاوى وإصدار التصريحات التي تلعن الشياطين، أم أن هناك ما يستدعي الاستفادة من الوقت في ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وإطلاق المقاومة الشعبية، تحضيراً لمرحلة ما بعد المفاوضات تلك المرحلة، التي تحتاج إلى تجميع كل عناصر القوة الفلسطينية، قبل التطلع إلى دعم الخارج؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها