بعد شهرين من الآن، سيبلغ عمر الانقسام الفلسطيني عشر سنوات بالتمام والكمال، و هذا الانقسام الذي هو أبشع البشاعات في التاريخ الفلسطيني لأنه ضد كل الأولويات الفلسطينية، وصل إلى حالته الإشكالية الكاملة، و أنتج نفسه بطريقة تفوق كل أوهام الذين تورطوا فيه من حركة حماس بنزق و ضيق أفق حتى إنهم سلموا تماماً بعجزهم المطلق عن النجاة منه، بل يواصلون الخضوع له و التوغل في متاهاته و الارتهان لخياراته التي تتناقض كلياً مع المسار والمصير الفلسطيني.
و أخطر مدى وصل إليه الانقسام أنه بدأ ضد الأولويات الفلسطينية وانتهى إلى أن يكون ضد أولويات حماس نفسها، والدليل القطعي على ذلك أن حماس التي كانت تطمح إلى ارتقاء مكانتها في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وهو في عز قوته، أصبحت ملحقة بانصياع تام بأولوياته بشكل مطلق بعد أن حلت به الهزيمة القاسية، وبعد وصوله ولو بالتحايل إلى حكم مصر، وحيث كشف هو نفسه أنه لا يملك أدنى أهلية أو برنامجا حقيقيا ليحكم مصر، وأن الهزيمة التي لحقت به كانت بديهية.
ومن ينظر إلى قطاع غزة خلال هذه العشر سنوات، لابد أن يتملكه الإحباط، فهذا الشريط الضيق من الأرض المحصور بين الماء والصحراء، لعب في تاريخ القضية أدواراً إعجازية، تأسست فيه الحركة الوطنية من قلب النكبة، وتأسست فيه حركة الفدائيين الأولى في منتصف الخمسينيات على يد ضابط خارق من ضباط مصر أيام عبد الناصر وهو الشهيد مصطفى حافظ، وانطلقت منه الشرارات الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة على يد خليل الوزير "أبو جهاد" الذي نحتفي الآن بذكرى استشهاده، وأسقط المشروع التآمري القديم الجديد وهو مشروع دفن فلسطين في رمال صحراء سيناء، مشروع الإسكان والتوطين الذي كان على رأس إسقاطه فتحي البلعاوي ومعين بسيسو، وأعطى للثورة المعاصرة إبداعات خارقة، و تجلت فيه الانتفاضة الأولى التي انطلقت من مخيم جباليا بكل روحها وقيمها المدهشة، وأعطى الولاء والدعم لفلسطين رغم المصاعب المستحيلة، وكان يتفتح بكل الود كمكون رئيسي من مكونات القيامة الفلسطينية، إلا أن جاء الانقسام الأسود على مزيد من الأوهام والأولويات الشاذة التي لا تمت إلى أنسابنا بأي صلة.
أزمة حماس تكمن في أنها كل يوم تكتشف أن الشرعية الفلسطينية أرحم بها من كل ماعداها من الموسوسين، لأن هؤلاء يوسوسون بالباطل وينظرون إلى القضية بأنها فرصة ثمينة للاستخدام وليس العطاء، وهؤلاء طريقهم مغلق وأفقهم يأس، خذلوا وأعطوا المصائب التي يتسببون بها أسماء جميلة مستعارة.
بعد عشر سنوات، تبدو مشكلة حماس مع نفسها أكثر من مشكلتها مع الآخرين، ولكن أهل قطاع غزة الذين يبلغ عددهم الآن أكثر من مليوني إنسان هم الذين يدفعون الثمن ويكتوون بالنار، وكل الحرائق التي تشعلها حماس يطفئونها بأصابعهم و ضروراتهم الحيوية التي أوشكت أن تصل إلى حد المستحيل، ولكن لابد من متابعة الأمل، فالانقسام هو عار بكل معاني الكلمة، وهو ضعف بينما نحن نتلمس القوة في مقاومتنا لاحتلال متوحش في سياساته وقواعده الفكرية، الانقسام ظلم عظيم لشعبنا، واعتداء على صورته الحقيقية، وإلحاق الأذى به بدون مبرر ولذلك فإن فتح الطريق مع حماس لمحاولة جديدة للمصالحة، وعرض الأولويات الفلسطينية بأنها عنوان المستقبل، وإصرارا الشرعية الفلسطينية على احترام الاستحقاقات الوطنية مثل الانتخابات بكل مستوياتها هو طاقة أمل جديد ينفتح، وياليت أن حماس لا تواصل الهروب، ولا تختبئ من الحضن الوطني بأحضان الأعداء و المنافقين، نتمى أن تستجيب حماس وتخرج من قوقعة الارتهان العدمي للأوهام الملونة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها