لقد مثلت الشهادة لدى الفلسطينيين ظاهرة مميزة، يتساوى فيها المناضلون والمجاهدون من مختلف الأعمار ومختلف المقامات من الذكور والإناث منذ بدايات القضية الفلسطينية وإلى اليوم، يكاد لا يمرُّ يوم ليس فيه ذكرى لشهيد، وقد تميز شهر نيسان عن غيره من الشهور، بذكرى العديد من الشهداء والقادة العظام الذين تركوا بصمة مميزة على نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل التحرر الوطني، يذكرهم الشعب الفلسطيني بإجلال وتقدير ويستمد المناضلون الفلسطينيون من ذكراهم العزم والخبرة.
ومن أبرز الشهداء الذين يتذكرهم الشعب الفلسطيني في هذا الشهر / الشهيد عبد القادر الحسيني / الذي ارتقى شهيداً في معركة القسطل في الثامن من نيسان 1948م، وشهداء مجزرة دير ياسين في التاسع من نيسان 1948م، والشهداء القادة العظام / أبو يوسف النجار / وكمال عدوان / وكمال ناصر / الذين استشهدوا في عملية معقدة للموساد الصهيوني في بيروت فيما عرف بعملية الفردان في 13 نيسان 1973م والشهيد الكبير / خليل الوزير / أيضاً في عملية معقدة ومركبة للموساد الإسرائيلي في 16 نيسان 1988م في تونس، والشهيد الدكتور / عصام سرطاوي / في عملية إغتيال مزدوجة امتدت خلالها رصاصات الغدر والخيانة لتنال من الشهيد في مدينة لشبونة البرتغالية صباح يوم العاشر من نيسان للعام 1983م، وقد حظي جميع من ذكرنا بالتعريف بهم على عكس الشهيد والقائد الفذ المفكر المبدع عصام سرطاوي نظراً لحساسية مهمته وتعقيداتها والتي لم تكن واضحة أو مفهومة للكثيرين من النخبة قبل عموم الشعب، ولذا أجد نفسي ملزماً بالوفاء لروح الشهداء بالتعريف بهم وبنضالهم لإنصافهم من جهة ولتعريف جيل الشباب بتلك الصفوة من قادة ومناضلي الشعب الفلسطيني، الذين قضوا على طريق الحرية والكفاح من أجل أقدس وأعدل قضية عربية معاصرة وهي قضية فلسطين.
لذلك في هذه المناسبة المؤلمة والعزيزة على نفوس أبناء شعبنا ومناضليه سأقصر مقالتي على التعريف بالشهيد القائد الدكتور عصام سرطاوي في ذكراه الرابعة والثلاثين، الذي نذر نفسه وعقله وجهده من أجل قضية شعبه العادلة، لقد هاله الجرح الذي لحق بالشعب الفلسطيني وبأمته العربية إثر نكبة حزيران عام 1967م، فترك عمله وتخصصه الطبي في جراحة القلب، لعلاج هذا الجرح العميق الذي أحدثه في نفسه، فأنطلق للعمل الفدائي المسلح وشكل تنظيماً فدائياً سمي (الهيئة العاملة لدعم الثورة الفلسطينية) من المسمى يفهم أنه ليس بديلاً عن الثورة، أو حتى منافساً لفصائلها، بقدر ما يحمل من معنى ومضمون لدعم الثورة وليس فصيلاً محدداً، ونفذ هذا التنظيم عدداً من العمليات العسكرية المشهودة، وقدم عدداً من الشهداء الأبرار يتقدمهم شقيقه الشهيد المهندس عمر السرطاوي ... وبعد مدة من الزمن لم تتجاوز الثلاث سنوات كان لقائه بقيادة حركة "فتح" وحواره معها، إثر ذلك حلَّ التنظيم (الهيئة العاملة) وعمل على دمجه في حركة "فتح"، وأصبح عضواً في مجلسها الثوري، ولقد أتاحت لي المسيرة الكفاحية أن أتعرف على الشهيد عصام في بداية سبعينات القرن الماضي، ولقد سألته عن سبب تأسيس تنظيم الهيئة ومن ثم إندماجه في حركة "فتح"، فكانت إجابته أنه بعد عام 1967م عندما قرر ذلك لم يكن مقتنعاً بأي من الفصائل القائمة فأسس تنظيمه كي يكون رديفاً ويقدم إضافة نوعية إلى فصائل العمل الفدائي ولكن مع التجربة والممارسة يقول الشهيد أنه اكتشف أن حركة "فتح" أثبتت أنها حركة الجماهير الواسعة والجامعة والمعبرة عن تطلعات الشعب الفلسطيني وعن مرحلة التحرر الوطني التي يمر بها الشعب الفلسطيني، إضافة إلى وضوح أهدافها ورؤيتها للصراع، وقدرتها على تمييز التناقضات الرئيسية عن الثانوية، وشمولية فكرها الجامع والمتعدد من البعد الوطني وهو الأساس إلى البعد القومي الذي لا يقل أهمية إلى البعد الإنساني القادر على تقديم القضية الفلسطينية لكل المستويات الوطنية والعربية والدولية، فمن هنا كان خيار الشهيد المفكر المبدع عصام سرطاوي الإندماج هو وتنظيمه في حركة "فتح"، وبالفعل فقد مثل إنضمامه إلى حركة "فتح" إضافة نوعية نضالية متميزة إلى أساليب حركة "فتح" الكفاحية، قلة من الناس يدركها حتى ممن هم كادرات متقدمة في حركة "فتح" إلى غاية الآن ...!
لقد كان الشهيد قائداً مفكراً مبدعاً، إنكب على دراسة الحركة الصهيونية ومشروعها، ووقف على آليات عملها وتوظيفاتها المختلفة، ووقف على تركيبة مجتمع الإستيطان الصهيوني وآليات عمله وشبكة تحالفاته الدولية الإستعمارية، ما أوصله إلى جملة من الخلاصات العملية، تتصدرها أن أولى ضحايا الصهيونية هم:
((اليهود)) وثاني ضحاياهم ((نحن الفلسطينيين والعرب))، فقد مارست الحركة الصهيونية شتى أشكال الإرهاب ضد الطوائف اليهودية المختلفة في مختلف بلاد العالم وتحالفت مع الحركات الفاشية والنازية لارتكاب أبشع المجازر في حقهم للحيلولة دون إندماجهم في مجتمعاتهم التي ينتسبون إليها ويعيشون فيها منذ مئات بل آلاف السنين سواء في البلاد العربية أو غيرها من دول العالم، وعملت على إقتلاعهم وسوقهم كالأغنام إلى فلسطين وإحلالهم مكان الشعب الفلسطيني، ووضع الضحيتين في أتون صراع لا ينتهي لحساب طرف ثالث وهو الإستعمار العالمي، لما فيه من تحقيق لمصالحه في فلسطين وفيما تمثله فلسطين تجاه المنطقة، ومن هنا تبدأ مسيرة جديدة للقائد والمفكر المبدع عصام في مواجهة المشروع الصهيوني، والعمل بالتضاد مع جملة المفاهيم التي أقامت الحركة الصهيونية مشروعها عليها، فكان إبداعه يتجلى تحت مبدأ إعرف عدوك، والبحث عن إستراتيجيات معززة للكفاح المسلح، خصوصاً بعد توقف تجربة المقاومة في الساحة الأردنية عام 1970م، وكان من أبرز هذه الإستراتيجيات تعزيز الهجرة المعاكسة (أي إعادة تهجير اليهود إلى مواطنهم الأصلية) وكشف حقيقة الصهيونية للطوائف اليهودية المنتشرة في مختلف دول العالم وإقناعهم بعدم الهجرة إلى فلسطين، وهذا النهج يصيب الحركة الصهيونية ومشروعها الإستعماري في مقتل، وكان يقول الشهيد عصام في هذا السياق (علينا تعزيز وتطوير الكفاح المسلح داخل فلسطين) وفتح الحوارات مع الطوائف اليهودية المختلفة وإقناعها بالبقاء في مجتمعاتها وإندماجها فيها ورفض الترهات والأكاذيب التي تسوقها لها الحركة الصهيونية لدفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين وتكذيب مقولة ((أرض الميعاد)) ((أرض اللبن والعسل)) وأن ((اليهود قومية)) وصولاً إلى إقناع اليهود أنهم الضحية الأولى ونحن ((الفلسطينيون والعرب)) الضحية الثانية للمشروع الصهيوني العنصري الذي تدعو إليه الحركة الصهيونية، إن هذا المنحى الذي نحى إليه الشهيد عصام السرطاوي أعتبر منحاً خطير في نظر الكيان الصهيوني ومؤسساته، فبدأت مطاردته ومحاصرته بوسائل شتى لوقفه وشله، وكان أهمها تسخيف هذا المنحى بل وتخوينه من قبل نخب فلسطينية أيدلوجية غير واعية أو مرتبطة كما سيثبت فيما بعد، وقد استقطب هذا التوجه وهذه السياسات المبدعة لدى الشهيد عصام سرطاوي القيادة العليا وعلى رأسها الشهيد القائد الرمز أبو عمار، والقائد المفكر والمبدع محمود عباس الذي وصفه في حديث لي مباشر ((أنه أستاذه)) وقد تبنت القيادة هذا الشكل في النضال في سياق تعدد وسائل الكفاح والنضال الوطني، وكلف الشهيد عصام بهذه المهام الحساسة تحت الإشراف المباشر من القائد محمود عباس وإطلاع الشهيد القائد ياسر عرفات، وجند له العديد من الكادرات الوطنية والفتحاوية، وسقط العديد منهم شهداء في الساحة الدولية أذكر منهم الشهيد الدكتور نعيم خضر والشهيد الدكتور عز الدين القلق والشهيد سعيد حمامي لتتوج مسيرة هذا المنهج الكفاحي بإستشهاد الشهيد عصام سرطاوي في العاشر من نيسان 1983م.
لقد أحدث هذا المنهج إختراقاً هاماً للرأي العام الدولي وإختراقاً للمساحات المحرمة على الكفاح الفلسطيني بين الطوائف اليهودية وما نشهده اليوم من تحولات في كثير من مواقف الدول والشعوب الأوروبية يعزى لهذا المنحى الكفاحي الذي أظهر وكشف حقيقة الحركة الصهيونية وكيانها العنصري وبين عدالة القضية الفلسطينية، ولا أغفل عما أنجزه هذا المنحى من إنجازات تمثلت في إصدار قرارات من الدول العربية التي هاجر منها اليهود سنة 1948م وعقبها إلى فلسطين المحتلة بالسماح لهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي وإستعادة جنسياتهم وحقوقهم كاملة سواء في المغرب أو العراق واليمن والكثير من الدول العربية، وتبدو أهمية ذلك عندما تعرف أن سبعون في المئة من جنود جيش الكيان الصهيوني هم من أصول عربية ...! ولكن أفرغت هذه القرارات من مضامينها تحت ضغط القوى الدولية وخصوصاً الصهيوأمريكية، لما تمثله من خطر سكاني على مستقبل الكيان الصهيوني، وفي نفس السياق فإن أفكار الشهيد عصام سرطاوي ونظرياته في تفكيك الصهيونية وتفكيك كيانها كانت ملهمة للمفكر العربي المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي أتيح لي التعرف إليه في عقد الثمانينات من القرن الماضي حيث كان أستاذاً للأدب المقارن في جامعة الملك سعود بالرياض وكان يعد حينها لعمله الموسوعي ((الصهيونية واليهودية)) لقد كان ينظر بإعجاب لكفاح ونضال وفكر الشهيد عصام سرطاوي، ووصفه بالمفكر والمناضل المميز في غيابة الجهل والغرائز العربية، الحديث عن الشهيد عصام وكفاحه وفكره يحتاج إلى ورش عمل وكتابة كتب علها توفيه حقه، لقد كان الشهيد عصام مدرسة فكرية نيرة وثورة في رجل، ورجل مؤسسة يؤمن بعدالة قضيته وقضية شعبه وحتمية انتصاره وصوابية فكره وكان مثقفاً ثورياً ممارساً من طراز خاص لا تهزه الأراجيف التي أطلقت من حوله، واليوم ونحن في الذكرى الرابعة والثلاثين لإستشهاده وهو يحمل معاول تفكيك الحركة الصهيونية وكيانها وإحقاق العدالة للشعب الفلسطيني في حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على أرضه وأرض أجداده أرض فلسطين التاريخية، يستحق الشهيد عصام من رفاقه ومن قيادته وعلى رأسها السيد الرئيس أبو مازن ومن شعبه الإنصاف والتقدير والتكريم، وأرجو أن يعتبر الأخ الرئيس أبو مازن هذه المقالة بمثابة دعوة مباشرة له لتكريم الشهيد ونفض الغبار عن كفاحه وفكره الفذ وطلائعيته النضالية، لأن الغوغاء والجهلاء والخونة عملوا بتوافق مع الحركة الصهيونية لتشويه تاريخ هذا المناضل الكبير والمبدع، وإني على ثقة أن الأخ الكبير الرئيس القائد أبو مازن يشاطرني الرأي فيما ذهبت إليه بل لديه شخصياً ما يضيف الكثير عنه عما لا أعرفه أنا شخصياً عن الشهيد عصام لأنه كان المشرف على هذه المهمة الحساسة للشهيد عصام السرطاوي طيلة مرحلة نضاله، رحم الله الشهيد القائد الفذ المبدع عصام سرطاوي رحمة واسعة هو وجميع شهداء شعبنا المناضل والذين هم الأكرم منا جميعاً وأسكنهم الله فسيح جناته.
ويبقى شهر نيسان شهر الشهداء الأفذاذ، يحتم علينا أن نبقى أوفياء للمبادئ والأهداف التي قضوا جميعاً من أجلها وهي هزيمة الصهيونية ومشروعها العنصري وتحرير الأرض والإنسان، هؤلاء هم شهداؤنا وقادتنا الذين نجلّ ذكراهم لما تمثله من نبراس يضيء لنا طريق الحرية والإستقلال، وللحديث بقية، علماً أن هذه المقالة قد كتبت قبل سنتين، ولم أضف عليها الآن شيئاً يذكر، فأحببت إعادة نشرها لمزيدٍ من الإطلاع عليها من جديد وأخذ العبر.
آخر الوجد ... أول العهد ... أول الميلاد ... كنتِ ... وما زلتِ ... أنتِ ...
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها