بقلم: محمد سرور

خاص -مجلة القدس العدد السنوي 333

لم نعد ندري إن كان وضع الأمة، من محيطها إلى خليجها، قد بات في حال "فالج لا تعالج". بلادنا أصبحت ساحات، لا أوطان، مستباحة ومنخورة بوباء التطرف والهاجس الأمني.

قبل سنوات، أي منذ بدأ ما يسمى "الربيع العربي" هللنا وانحزنا إلى الحناجر التي أنشدت الحرية وغنت التغيير. كنا معها لأننا كنا نشعر بضرورة الحداثة والتحديث ومأسسة السلطات وتفعيلها والقضاء على الفساد الذي صار من مكونات السلطات القائمة.

كنا نحلم بأن نصبح جزءًا من منظومة الشعوب الساعية إلى النهوض عبر رفع قيمة الإنسان من خلال منحه حق العيش في مناخ من الأمان الإجتماعي، أي منحه كل التقديمات والتسهيلات التي يتمتع بها أي مواطن في أية دولة في العالم. كما أن من حقه فتح آفاق الفرص أمامه في التوظيف وفي أولوية استثمار الكفاءات العلمية والتخصصية.

إذا كانت الأحلام تحاكي واقعًا معاشًا لا شك في ضرورة تفعيله وتصويب مساره، لأن الأزمات القائمة آنذاك كانت لا تحتمل. مقابل انسداد في جدار الإستبداد الذي نصبته حواشي السلطات القائمة، مما أعاق أية إمكانية للتغيير.

مقابل ذلك كان هناك قوى تملك كافة أسلحة الإستبداد والقهر، كونها كانت تتمتع بكامل الامتيازات التي أهلتها لكي تكون بديلا للسلطات التي ضعف نفوذها وتهاوت هيبتها. هذه القوى المنظمة استثمرت المساجد وبنت المؤسسات الموازية وأنتجت الكادر الذي يأتمر بأوامرها، وفوق ذلك دعمت بما يكفي حاجتها ويزيد من المال والعتاد الذي اطاح دولا ومزق أخرى.

اكثر ما احترفته هذه القوى هو استفادتها من تجارب سلطات الإستبداد، والتفوق عليها بالانضباط الحديدي الذي يقف وراءه اجهزة لا ضمير ولا عاطفة لها، وبالتالي مارست أبشع ما يمكن أن يتصوّره عقل وأن تستوعبه المخيلة الإنسانية.

أين كان كل هذا الحقد الذي نشهد على بشاعته كل يوم؟

في كل بلد عربي تم الإجهاز على مساحة التعايش بين مكونات المجتمع الواحد، وبسحر ساحر تم فرز هذه المكونات إلى معازل تخص هذه الطائفة وذاك المذهب وتينك العرق، بحيث أصبحت الدولة الواحدة مجرد محميات ممزقة لا انتماء فيها ولا مواطنة.

لم نعد نتحدث عن التغيير، والتحديث صار من الأفكار التي لا مكان لها في الواقع العربي. أصبحنا بين خيارين لا ثالث لهما: الاختيار بين سيئ وأسوأ... فقط.

أصبحنا نهتم بوحدة البلد وإعادة جمع شتاته وشظاياه، لأن البديل هو الهاوية... نعم الهاوية. نريد بلدًا موحّدًا تحكمه سلطة تسهر على وحدته، وبعد ذلك نكون معها أو نلعنها لا يهم، فالأهم هو أن نعرف أين نقف، وما هو مصيرنا... وحده الفلسطيني الذي لوّعته الهجرات واكتوى بجمر الانتظار من يعرف معنى كلمة وطن... من خلال فقدانه بيته وأرضه، ومن خلال كفاحه المرير الذي لم ينقطع منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن. يعرف الفلسطيني معنى كلمة وطن من: الامكنة التي مات على دروب مغاربها ومشارقها... من الأسماك التي باتت تميّز مذاق لحمه.

كم لعنّا سايكس- بيكو، واعتبرنا تقسيم وتجزئة وطننا العربي مؤامرة كبرى ضد شعوبنا وقضايانا، ما الذي يحصل الآن، وأية أيادٍ تلك التي تعبث بمصائرنا وتمزق ما كان ممزقًا أصلا؟

تقول وثائق التاريخ: منذ ما قبل الحملات الصليبية الأولى والعين على بلادنا، منذ ذلك الحين وأبعد أرادوها ساحة هالكة تمنع فيها الأحلام والنضهات... أكل خيراتها وهدَّ أركانها الشرق والغرب. حتى إن قيام ما يسمى "إسرائيل" كان الهدف منه. التخلص من أزمة الهوية لدى اليهود، وزرع وتد في خاصرة أمتنا، وجعه يمنعنا من التفكير والتوازن والنهوض.... وهو ما حصل فعلا.

 إلى أين يسوقنا هذا الطاعون الذي اجتاح كل مفاصل مجتمعاتنا؟

اعتبر الأميركيون ومنذ بداية الأزمات التي تعصف بعدد من الأقطار العربية، ان لا حل لصراعات المنطقة إلا عبر تقسيم الدول إلى كيانات تتناسب والمكوّن العرقي والمذهبي للجماعات التي تسكنها، الإسرائيليون الآن يسعون وبكل قوة إلى ترجمة هذه التطلعات بما يخدم مصالح دولتهم تجاه مستقبل المنطقة. أفيغدور ليبرمان- وزير الحرب في حكومة العدو، رأى أن تقسيم دول المنطقة إلى كيانات متصارعة على أساس عرقي وديني ومذهبي يشكل حماية أبدية ل "إسرائيل". في حين اعتبر ليبرمان أن حصول "إسرائيل" على صفقة طائرات أف 35 الأكثر تطورا في العالم يعني ضمان تفوق جيشه على مدى الخمسين سنة القادمة.

لقد رأينا بأم العين حجم الإستثمار الذي أفاد دولة الإحتلال منذ بدأ الإنقسام الفلسطيني في حزيران عام 2007. فقادة العدو الآن لم يعودوا بحاجة إلا مفاوضات أو بحث عن سبل حل القضية الفلسطينية، لأنهم  أصبحوا في وضع لا يرون فيه ضرورة للسعي إلى حل الدولتين، بصرف النظر عن حجم وقوة أية دولة منهما، ناهيك عن الأصوات التي تعتبر غزة هي الدولة الفلسطينية، وعن فرض الدولة اليهودية بقوة الأمر الواقع، على اعتبار أن المكوّن العربي- الفلسطيني داخل الخط الأخضر بريدونه أن يبقى مواطنًا قيد الدرس في الكيان الذي يتمتع فيه اليهود بأغلبية كاسحة. 

 هذا على صعيد الحلقة الفلسطينية فقط، فكيف عسانا نرى المشهد إن وسعنا دائرة الخوف على مستوى الإقليم بشكل عام؟  إنه وضع نموذجي لم تحلم به إسرائيل منذ قيامها وحتى الآن. لأن ما نتج من انشقاقات وما سال من دم وتمزق في الأنسجة الوطنية والإجتماعية أصبح من الصعب رتقه وإعادة وصله من جديد.

الغريب هو تلك الإندفاعة غير المسبوقة للعديد من دول المنطقة على الاستثمار في الحروب الداخلية التي لن تنتج منتصرًا أو تبني مستقبلا يليق بشعوبنا ويحقق لها أي حلم بالتطور والتقدم، وبذات الوقت تتبدد ثروات عقود طويلة راكمتها تجارة الذهب الأسود بطريقة عبثية مدمرة. لا ندري بأية طريقة يفكر الممولون لمثل هذه الدوّامة الفتاكة، وأين كانت هذه الأموال التي تراق الآن على مذبح حروب الطوائف والمذاهب؟

إين كانت هذه الأموال أمام غزوات الجوع التي فتكت بالعديد من الأقطار وأفقرت ما لا يحصى من البشر؟ لا ندري ما هو الرابط بين مصالح السلطات التي تحكم دولا غنية في منطقتنا وبين الادارة الأميركية الساعية إلى تحسين اقتصادها والتخلص من أزمتها التي رمت بثقلها على المواطن الاميركي. إنما بالنتيجة الواضحة يعبر الانسداد السياسي لأي مخرج للقضايا الصعبة في حروب المنطقة عن تحقيق مصالح غاية في القوة لكل من الادارة الأميركية وإسرائيل. وأن الذين يلقون باموالهم التي تغذي الحروب الداخلية لن يحصدوا شيئا، وأن ما يتداول من كلام في الأيديولوجيا وحماية كل دولة للمذهب الذي تنتمي ما هو إلا كلام لا سوق له سوى مزيد من الدم والدمار الذي لا مدى لأذاه. 

المهم هو التدقيق في النتائج، فالنوايا الحسنة لا تفيد أحدا بعد الذي نتج عن بذخ في التسليح وتمويل الحرب وتجارة القتل. والمهم أيضًا هو السؤال: ماذا استفاد الذين ارتموا في لهيب الحرب ونظروا لاستمرارها؟ فيما الندم لا ينفع أحدًا إن اعتبرنا ما حصل ويحصل هو تطوّع كامل المواصفات لخدمة إسرائيل التي ندّعي معاداتها، ومزيد من الخذلان لفلسطين وقضيتها التي نزلت مرتبتها في الضمير الإنساني العربي والاسلامي إلى أسفل سافلين. 

هل بالامكان إعادة بناء النفوس عبر ما تراكم فيها من حقد وألم ومرارات؟ هل بالامكان إعادة وصل المجتمعات والكيانات بما يضمن استمرارها وتفويت الفرصة على المغذين لها والداعين إلى تفتيتها؟ هل وحده الافلاس في الميدان هو الذي يحدد مسار المرحلة القادمة ويقود إلى تسويات الكل خاسر فيها والرابح هو الحياة؟ عندما تحصل التسويات... لا أحد من دافعي ضرائب إشعالها والساقطين في آتونها سوف يجني من حصادها المر... شيئا.