العلاقة بين الرئيس محمود عباس أبومازن، و"جيمس أرثر بلفور" علاقة تنافر شديد وعداء مبرر لما فعله ولمن ورائه من استعماريين، فبلفور هو أكبر عقل استعماري مزور بالتاريخ الحديث، وعلاقتنا كفلسطينيين به هي ذات علاقة الأمة العربية التي لفظته ولفظت ما جاء به وحكومته، وكيف لا وهو أحد أبرز الشخصيات التي أهلت العصابات الصهيونية للاستيلاء على بلادنا فلسطين واغتصابها، لذلك أعتبر الرئيس أبومازن أن الضرورة واقعة، وهذا أوانها بمئوية ما يسمى "وعد بلفور" الأخرق لتسليط الضوء عليه، واثبات فساده الذهني وعدم قانونيته وعقيدته الاستعمارية ولا اخلاقيته التي أدت للنكبة.

ما يسمى وعد بلفور والامم المتحدة

في خطاب الرئيس أبومازن من على منبر الأمم المتحدة الذي لم يأخذ حظه من التحليل والنقاش، استمر الرئيس في السياسة الثابتة التي تستنفر العالم وتستفزه ليقوم بواجباته التي قصّر طويلا بالقيام بها، إذ لم يعد يكفينا الإدانات والاستنكارات، والعبث في فلسطين من العدو، والقضية الأساس المتمثلة باحتلال الأرض وسرقتها تسير على قدم وساق وبالتوازي مع العقلية العنصرية الاسرائيلية (الأبارتهايدية).

يوغل الاحتلال الاسرائيلي الاستعماري بالقتل وسرقة الأرض، ومحو الذاكرة باختراع رواية يحاول تسويقها للعالم، وحول هذا المسعى الذي كان واضحا لدى أبومازن الذي نظر في الاتجاهات الأربعة حول فلسطين، فلم يجد لا الصديق ولا الأخ ولا الحليف ما كان إلا أن جعله يستند لصياغة النضال/الكفاح بشكله غير العنيف، فافترض لذلك ضرورة الاعتماد على الذات باتجاهين الأول: في المقاومة الشعبية الداخلية التي مازلنا مقصرين بها، والثاني: على صعيد نقض الرواية التوراتية التاريخية المكذوبة بالتوازي مع إثبات الحق التاريخي-القانوني، ولا يتأتى ذلك الا في إطار الفعل السياسي الدؤوب المتواصل، فالرؤية بهذا لدى حركة فتح كما لدى الرئيس واضحة، وليتفوه المتشدقون بما لا يطيقون عند سماع الحقيقة.

6 نقاط كبرنامج عمل

الرئيس في خطابه الأخير في الأمم المتحدة لهذا العام 2016 طرح باعتقادي 18 نقطة هامة منها 6 شكلت برنامج العمل القادم، فالرئيس قال أننا ملتزمون ب"أوسلو" والحل النهائي لكن في ظل التبادلية، فلا للاستيطان، ورفض الحلول المؤقتة، ولا للتخلي عن منجزاتنا، وذكر أن هناك 12 قرارا ضد الاستيطان عدم تنفيذها أدى للتمادي، ليؤكد أن المشكلة الأساس بالأرض، وهذا مفصل هام، ورفض التمادي بالاستيطان ورفض محاولة "نتنياهو" وحكومته تشريع المستوطنات ما هو (فجور وغطرسة) بتعبيره، كما أشار (للتطهير العرقي) موضحا واقع التمييز الديمغرافي بالقدس وفلسطين.

لقد أشار أبومازن لضرورة الاعتراف الاسرائيلي بدولة فلسطين ضمن السياق التبادلي ف"اتفاق أوسلو" ليس مجانيا، وتحدث عن ثقافة السلام ضد الإرهاب.

أما خطة عمله فلقد استندت -كما أرى- للنقاط التالية:

مشروع قرار في مجلس الأمن ضد الاستيطان "الفاجر والمتغطرس" بإرهاب المستوطنين،

وثانيا التأكيد على طلب الحماية الدولية،

وثالثا المضي قدما بالمؤتمر الدولي للسلام في باريس،

ورابعا تطبيق المبادرة العربية بالترتيب من الألف الى الياء، أي رافضا رفضا قطعيا التطبيع العربي قبل الاستقلال الفلسطيني

ثم طرح خامسا الاعتراف بالدولتين وضرورة عمل العالم لأن يكون عام 2017 هو عام زوال الاحتلال، ورفع مكانة فلسطين وصعود شمس فلسطين.

وسادسا طرح بقوة ضرورة المضي قدما ضد انجلترا (ومن ورائها العقل الاستعماري الغربي) بإعلان مسؤليتها عن ما يسمى "وعد بلفور"، وهنا مربط الفرس والبداية للاعتراف العالمي بتقصير بريطانيا والعالم وظلمه وتزويره للحق العربي الفلسطيني في أرضنا.

قد يرى البعض في ذلك كلام في كلام، ولا بد من فوهة البندقية والكفاح المسلح، وله ولنا أن ننظر بعمق لمناقشة مثل هذا التوجه في سياق القدرة والامكانية والمعسكرات والاعداد دون تمادي او اتهام او افتعال منابر شتيمة وإرهاق للقدرات بعيدا عن التناقض الرئيس.

لكن المتتبع لخط الفعل الفلسطيني منذ أوقف الرئيس أبومازن المفاوضات على قاعدة رفض المستوطنات، وإطلاق الأسرى، والحل النهائي، يعلم جيدا ويعي أن هناك بديل واضح يتجلى بوضع أسلحة جديدة وأدوات نضال فعّالة أمام العربي والفلسطيني يستطيع من خلالها أن يناطح ويكافح داخليا بالمقاومة الشعبية وعلى الصعيد العربي والدولي، وما كان فتح ملف "بلفور" إلا بداية الطوفان السياسي/القانوني/التاريخي.

الرواية الفلسطينية هل تصمد؟

"الرواية الفلسطينية" المرتبطة بالإيمان بالله، وبالحق والعدالة والتاريخ وفلسطين هي على عكس ما جاء به "بلفور" في الكلمات الستين المشينة فيما يسمى وعده.

انها الرواية العربية المناقضة للرواية الصهيونية وأحد مؤسسيها بلفور، وهي روايتنا التي أشعل أوارها الرئيس أبومازن ردا على ما يقوم به نتنياهو منذ العام 2011 على الأقل-وما قبلها- حينما ادعى "نتنياهو" بالقول مخاطبا الفلسطينيين:(كيف يجرؤون ألا يعترفوا بالقدس عاصمة "لإسرائيل" ونحن هنا منذ 4000 عام)، ومنذ طرح "الدولة اليهودية القومية" شرطا ليحقق تنازلنا عن الأرض، إضافة لانتزاع اعترافنا التاريخي بأنها –أي فلسطين-كانت له وها هي عادت له؟! ما لم يقبلها أحد إلا في أوهام رواية اليمين الإسرائيلي، وأسانيده التوراتية الضلالية.

ها هو الفلسطيني العنيد يقول ل"نتنياهو" وعصبته أن الأساس التاريخي باطل ببطلان ما يسمى "وعد بلفور"، ومن ثم ببطلان "صك الانتداب" وعليه بطلان ما أنتجته عصبة الأمم فيما يتعلق بالحق التاريخي (ناهيك عن فساد الرواية التوراتية التي أثبت عدم صحتها العلماء الآثاريين الاسرائيليين أنفسهم، وعلماء التاريخ العرب والأجانب: أنظر المفكر فاضل الربيعي وفرج الله صالح ديب وزياد منى وأحمد الدبش، ود.ابراهيم عباس بسياق آخر، وبكر أبوبكر وعبير زياد...).

ومن هنا ينطلق أبومازن من رفع الدعوى بتخطيء بريطانيا الاستعمارية عندما أعطى من لا يملك أرضنا نحن أرض فلسطين لليهود الأوربيين ويهود العالم، فإعلان المسؤولية عن "الوعد" ثم اعلان المسؤولية الاسرائيلية عن "النكبة" عام 1948 ما طالب به الرئيس في خطابه هو الرد الواضح على خرافات مطلب الاعتراف ب"قومية ويهودية الدولة الاسرائيلية" المقامة على أرض فلسطين وجغرافيا فلسطين .

لم يترك الرئيس المجال لأحد أن يفكر خارج المسعى، فقفز من "بلفور" فالنكبة ليفتح بوضوح قرار التقسيم عام 1947 حيث أقيمت دولة "اسرائيل" على أرض فلسطين (لاحظ على أرض فلسطين)، وكان من المتوجب أن تقام دولة فلسطين أيضا على أرض فلسطين، فهو قال نصا ما عبر عن رفضه ب"وعد بلفور" الذي تضمن كما قال: (إعطاء أرض فلسطين دون وجه حق، أرض فلسطين لغير شعبها، مؤسسين بذلك لنكبة الشعب الفلسطيني، بفقدانه لأرضه....)، وموضحا:(أن تحقيق مصالحة تاريخية بين الفلسطينيين والاسرائيليين يقتضي بأن تعترف "اسرائيل" بمسؤوليتها عن النكبة التي حلت بشعبنا الفلسطيني ولا زالت...)

أرض فلسطين وقرار التقسيم وفساد "بلفور"

وعندما يفتح الرئيس أبومازن قرار التقسيم، تأسيسا على فتح "وعد بلفور" الفاسد، فإنه يقول بوضوح صادم للاسرائيلي المتغطرس: (قامت "إسرائيل" ومنذ العام 1948 بالاعتداء على الشرعية الدولية عبر انتهاكها لقرار الجمعية العامة رقم 181، المعروف بقرار التقسيم، الذي نص على قيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية، وفق خطة تقسيم محددة، بقيام القوات الإسرائيلية بالسيطرة على أكثر مما خصص لها، وهو انتهاك صريح للبنود 39، و41 و42 من ميثاق الأمم المتحدة، حيث جاء في الفقرة (ج) من قرار التقسيم "أن مجلس الأمن يعتبر كل محاولة ترمي إلى تغيير التسوية التي يهدف إليها هذا القرار بالقوة تهديداً للسلم أو قطعاً أو خرقاً له أو عملاً عدوانياً بموجب نص المادة 39 من الميثاق"، إلا أنه وللأسف لم يتحمل مجلس الأمن مسؤولياته بمحاسبة "إسرائيل" على سيطرتها على أراض مخصصة للدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم).

لقد عمد الرئيس أبومازن على التأكيد -بشكل قد يراه المناوئين مبالغا فيه- على كلمة (أرض) أرض فلسطين و(شعب) فلسطين، مميزا بين أرض دولة فلسطين القادمة، وأرض فلسطين التاريخية، وكلا التعبيرين في الإطار الجغرافي فلسطين. حتى دولة "اسرائيل"، حيث كان واضحا بإثبات أنها أقيمت أيضا على أرض فلسطين، بلا لبس مطلقا.

لم يذكر الرئيس محمود عباس -كما هي عادته- بالمقابل أي لفظ يُفهم منه (أرض) "اسرائيل" ، بل وكان حذرا ومحدّدا بالتعاطي مع الاسرائيلين، إذ ميّز بكل وضوح بين الديانة اليهودية وبين الاسرائيليين الجدد سكان دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين، إذ قال: (لا يوجد خصومة بيننا وبين الديانة اليهودية وأتباعها، إن خصومتنا وتناقضنا هما مع الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا. فنحن نحترم الديانة اليهودية).

وربط في هذا الإطار تحقيق المصالحة التاريخية ليس بين اليهودية والاسلام مثلا، أو بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، وانما كما ورد في الجملة اللاحقة تماما إذ ربط بين الفلسطينيين والاسرائيليين ما يتوجب (بأن تعترف "إسرائيل" بمسؤوليتها عن النكبة التي حلت بشعبنا الفلسطيني)، وبالطبع كان على بريطانيا أن تعترف قبل الاسرائيلي بمسؤوليتها الاستعمارية التاريخية منذ "وعد بلفور" الاستعماري على الأقل.

وغني عن القول أن الرئيس يشير ضمنا هنا لفساد النص في ما يسمى"وعد بلفور" الذي اعتبر أصحاب الأرض العرب الفلسطينيين أقليات تافهة لا قيمة لها وهي كانت الأغلبية العظمى ، وكأنه يتعامى قصدا عن الحقائق، أو حسب ما قاله "بلفور" تخريفا "الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين"! لاحظ المقيمة ولاحظ الآن! كتمهيد للإقصاء والنكبة، وليست صاحبة الأرض والمستقرة منذ وجدت فلسطين، فكل كلمة من كلماته تنضح بالحقد والعنصرية والافتراء والتزوير.

ماذا يقول الرئيس حقا؟

قد يتساءل سائل ولماذا يفتح الرئيس أبومازن قرار التقسيم؟ و"وعد بلفور" المؤسس للنكبة، ونحن اعترفنا بقرار التقسيم أساسا لقيام الدولة الفلسطينية عام 1988، ونقول: ولم لا يفتحه كباب نضال يتعرض للرواية والأساس التاريخي لمن يريد الحل! وكأداة مواجهة للرواية الاسرائيلية التوراتية والصهيونية التاريخية المكذوبة! وكمنطلق لأصل الصراع! وكتجذير للحق، وحقيقة التعبئة اللاحقة للاجيال.

هو يقول أننا إن أردنا التجاوب مع العالم باعترافه ب"اسرائيل" التي قامت ظلما وعدوانا على أرضنا، نكرر على أرضنا نحن العرب الفلسطينيين-فلسنا "مقيمين" كما قال المزور الاكبر "بلفور"- فعليكم أن تردعوها التزاما بقراركم الأول أي قرار التقسيم لأرضنا.

وإن كان من فكرة مطروحة لدى "نتنياهو" لتشريع المستوطنات ما هو "فجور" كما أسماه أبومازن، فأنا كفلسطيني أفتح ملف "الوعد" المزور، وملف القرار 181 أي قرار التقسيم، إذ أن الاعتداء على الأراضي بالضفة الغربية، والذي يشكل خرقا ل12 قرار أممي، وخرقا للرفض العالمي للمستوطنات هو تكرار لخرق الاسرائيلي لقرار العالم بتقسيم أرضنا ووطننا قسمة ضيزى أي جائرة، لذلك فاللجم العالمي للاحتلال كان يجب أن يبدأ من القديم، وعليه يستبق الخطوات التي يتبعها "نتنياهو" بمحاولة شرعنة المستوطنات، والقول بيهودية الدولة وتأصيل روايته الفاسدة وتجذيرها عالميا، والتحلل من صيغة الاحتلال

العدالة مقابل الظلم

وإن كنا بالنظر للظلم التاريخي وظلم ما يسمى "وعد بلفور" لفلسطين وشعبنا، وما تلاه وبالتالي ظلم قرار التقسيم الذي يتم تقديم الكثير من التنازل استنادا اليه، بل والى القرار 242 الذي لم يذكر في خطابه أبدا، فإننا بكل ذلك قدمنا الكثير، بل وفوق ما يحتمله البشر من اجل السلام الذي تعمل الدولة الاسرائيلية يوميا على نحره على أعين العالم.

ان تثبيت الرواية والتاريخ وثقافتنا وتناول أصل الصراع على أرضنا نحن، عبر البدء برفض ما يسمى "وعد بلفور" الاستعماري الفاسد، وتأصيل وجودنا في وطننا نحن، والحق والعدالة يجب أن يكون للجميع –جميعنا- واضحا جليا، وهو ما أراد الرئيس –وحركة فتح- أن يطرق به نظر وأسماع كل أجيال الفلسطينيين، ووعي العرب والعالم.