فائض القوة الذي تتمتّع به إسرائيل هو الذي استدعى وزير الخارجية الفرنسي إلى تل أبيب. وهو نفسه الذي منحه الجرأة على انتقاد نشطاء المقاطعة لإسرائيل بموازاة الإنتقاد العابر لمشكلة الإستيطان التي تأكل الأرض الفلسطينية امام أعين العالم، مما يدل على شكلية الزيارة وثانوية المؤتمر الدولي الذي دعت إليه فرنسا.
فائض القوة هو الذي يعطي إسرائيل حق التبرؤ من أي مسعى لحل عادل للقضية الفلسطينية، مقابل مصائب الأمة المستعصية على أي حلّ، مما يفتح الباب على مخاطر لا تحصى تتعلق بالشأن الفلسطيني.
ما بعد سايكس- بيكو المؤسس على قضايا تناحرية- دموية، يبدو أننا ارتضيناه، وبناء على وجوده كأمر واقع، بدأ عالمنا العربي التعامل الجدي وفق الخارطة الجديدة للمنطقة عبر تغير واضح في الأولويات والرؤى والمسارات السياسية، وبالطبع التحالفات وفق منطق: عدو عدوّي... حليفي، فيما يجب أن لا يكون الأمر كذلك.
كل الخوف الآن من خارطة مصالح شرق أوسطية تمهّد لتبديد القضية الفلسطينية على قاعدة مقتضيات السياسة لدى النظام العربي الرسمي. لأن عملية الدفع باتجاه تطبيع علني وواسع للعلاقات العربية- الإسرائيلية جارية وفق ما هو مخطط لها، ويبدو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في هذا المجال.
كأن تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي بين مكونات المنطقة كان مفتعلا، والدوائر التي تشرف على بقائه ورفع منسوبه تعرف بدقة إلى أي قاع تودي بالخارطة الإنسانية التي تشكّلت على أساسها منذ مئات وآلاف السنين. لقد بتنا نشكك بأنفسنا إلى درجة السؤال: هل نحن الكذبة الكبرى وإسرائيل هي الحقيقة؟
يجب أن ندرك بأن الصراع بين بعض الدول العربية وإيران ليس مصلحة عربية، بقدر ما هو ليس مصلحة إيرانية. وما دفع البعض باتجاه جعله اولوية تعلو الأولويات الأخرى سوى وقوع في فخ صراع مؤبد لا خلاص لنا منه. لأنه يعني استنزاف الأمة في حروب لا منتصر فيها، ولا تؤدي إلا لاراق الدماء والامكانات وتبديد الثروات، وتعيدنا قرونا إلى الوراء. ومن ينظر إلى إسرائيل كحليف في هذه المرحلة سوى الذين يستخفون بالعقل العربي ولا يهمهم سوى مصالحهم الضيقة والمرحلية لأن التسويات- ولو تأخرت- سوف تأتي وعلى حساب الجميع باستثناء الكيان الصهيوني.
كنا في الماضي نعتبر أن قضيتنا مرتبطة بحال الأمة، وأن الثورة الفلسطينية تشكل رافعة هامة في المسافة التي تحتاجها الأمة لاستكمال استعدادها لتحرير فلسطين. خلال تلك الفترة كان العديد من الكيانات العربية منشغلا ببناء الهوية الوطنية الخاصة، التي جعلت من علاقتها بالقضية الفلسطينية علاقة شكلية لا اكثر، وبات في نظرها الصراع من أجل فلسطين عبئًا تجاهر في ضرورة التخلص من مقتضياته.
وقد رأينا بعد فشل محادثات كامب ديفيد التي كشفت حجم التغطية الأميركية للمشروع الصهيوني كيف أن بعض المنابر الإعلامية العربية تبارت في تحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية فشل المحادثات من بوابة تلقف الموقف الإسرائيلي الذي اتهم القيادة الفلسطينية برفض الحل لأنها تسعى إلى تدمير إسرائيل. هنا يتجلى الحضور الأميركي في قدرته على التأثير بعقول وإرادات الكثير من دعاة الحرص على قضية فلسطين من خلال البحث عن حل عادل لها.
بالعودة إلى مسألة فائض القوة، لم يزل وهم بعض الأنظمة العربية ثابتا بالاعتقاد بأنها كلما اقتربت من إسرائيل وأمعنت في التطبيع معها يكون نظامها القائم بمنأى عن أية مخاطر سوف تواجهها في المستقبل، وأن قوة إسرائيل الرادعة سوف تكون سندًا مهما وحاسمًا لمصلحتها بوجه القوة المعتدية، وبذلك تتناسى هذه الدول مسألة "سوس الخشب" الذي ينخر الداخل العربي، بحيث يصبح الدمار ذاتيا ولا يحتاج إلى العامل الخارجي لكي يهدده، فكم هي ثقة هذا النظام أو ذاك بالشعب الذي يدّعي حمايته أو تمثيل مصالحه؟ عندما ندقق في شكل ونوعية التدخل الإسرائيلي في سوريا نستخلص التالي: سعي دؤوب لواقع استمرار الصراع الداخلي وصولا إلى تدمير كلي للبنية الوطنية التي تشكلت على مدار عقود ومئات من السنين، ودفع باتجاه تقسيم يراعي أبدية الصراع بين مكونات الكيانات التي قد يفرزها الصراع الحالي، وبذلك تكون إسرائيل قد ضمنت حصتها الأبدية، ليس الجولان وحده، بل حدود تحرسها قوى لا ترى الكيان الصهيوني عدوا لها. هذا هو شكل التدخل الإسرائيلي، ووفق هذه القاعدة يعمل الصهاينة على إدامة الواقع بحيث لا يدفعون شيئا ويكسبون مجانا كل شيء.
ولأن هناك مشروعًا إسرائيليا يجري بناؤه وفق مخطط ثابت لا يحتمل التغيير والتبديل نرى أن لا رسم قريبا لخارطة تحدد إسرائيل، لأن منظومة اطماعها لا يمكن أن تتوقف. ولأن الخطط تتم بقدر عال من الدقة وترسيخ الأمر الواقع الذي لا يمكن إزالته. فإذا ما أجرينا مراقبة دقيقة لجغرافيا كل من الضفة الغربية والجولان نرى استحالة استعادتهما بالاتفاق، لأن الصهاينة علمونا كيف تحلُّ قضاياهم على حساب الآخرين، وبأن الإستيطان بات جوهر أيديولوجيا الفكر الصهيوني، وبأن هذا الفكر لا يحتمل المجازفة بإخلاء أي من الأراضي التي يحتلها ويقيم فوقها مستوطناته. ثم ان واقع الحال العربي "المرير" لا يلزم إسرائيل بأي شكل من الأشكال بأن تتواضع وتنسحب من هذه الأراضي العربية أو تلك.
وإذا ما راقبنا مسألة استقالة يعلون- العلماني المتطرف- والإتيان بمتطرف آخر علماني ببعد أيديولوجي، أبعد وأشد جنونًا منه- ليبرمان الذي يشبه نتنياهو إلى حد التماهي معه- ندرك إلى أي مستوى بلغ الكيان الصهيوني في التمادي الذي لا يمكن ضبطه أو كبح مساره، لأنه يراكم التحلل القانوني والأخلاقي الذي يؤدي إلى خيارين لا ثالث لهما مستقبلا: إما مواجهة الحائط حيث الإفلاس التام والندم الذي لا ينفع إسرائيل نظرًا للعجز عن فرض تسوية تعيد الأراضي للشعب الفلسطيني بسبب نمطية التربية الأخلاقية والتحلل من اية ضوابط وقوانين ناظمة للصراع وحيثيات الحل، وإما إلى اتخاذ قرار الترانسفير ضد كل من في فلسطين، في ظل انعدام وزن اخلاقي وقانوني دولي، وغياب تام للعرب عن ميدان الصراع الأصلي- فلسطين.
القاضي الأميركي- غير العادل- أخذ نقاهته الطويلة الأمد، التي تعفيه من أي التزام أو ضبط للأداء الإسرائيلي، فذلك لا يخفف وقع العدوان الصهيوني بقدر ما يحرج الأميركيين- ولو قليلا. وهنا لا بد لنا من التحلي بالصراحة الذاتية والإقرار بأن أيًا من الحزبين الديموقراطي أو الجمهوري لن يأتي برئيس لا يتابع نهج سلفه في الدعم المطلق للكيان الصهيوني، بل ما يثير القلق بهذا الشأن هو قفزات نوعية جديدة للمرشح الفائز من الحزبين، وإعلان شرعية احتلاله ودعم إجراءاته التي يتخذها بهذا الصدد.
نحن الآن أمام مسألة نسف المعايير القانونية والأخلاقية التي ضمنتها المواثيق والأعراف الدولية حول الحرية وتقرير المصير وحرمة الإحتلال والعدوان وعدم التصرف بأراضي وممتلكات الغير وحق مقاومة المحتل. وللأسف لم تكن إسرائيل وحدها المبادرة إلى مثل هذه الخطوة التي تخدم احتلالها وتشرعن إجراءاته التعسفية والإجرامية، فقد تقاطعت مع فوضى ذاكرة العقل العربي من خلال بعض المتسرّعين من أهل النظام العربي نفسه- ولو جزئيا، بحيث تداخلت المعايير والحسابات حتى كادت إسرائيل أن تعمم خطابها الأمني- الأخلاقي والقانوني، مثلا: وصول أجهزة أمن العدو إلى حد تجريم مطلقي الحجارة، والمعتصمين بالعلم الفلسطيني، واعتقال الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 11 عامًا وتغريم اهلهم بمبالغ طائلة لا طاقة لهم على دفعها، فإن الأمر ذاهب الى ما هو أبعد واخطر، حيث قد تطال إجراءات العدو، كل المعترضين على الإحتلال وغير المعترفين بشرعية وجوده فوق الأرض الفلسطينية، وبالتالي تتيح له انشاء كيان يهودي لا حق لأحد فيه معارضة سياسته وسلوكه العنصري والإجرامي. مقابل سعي النظام العربي إلى الفصل التام بين معايير العدو والمعايير العربية حول الإرهاب، ومن خلال الإحتشاد الجماعي باتجاه فرض التسوية التي تحتاج إليها العديد من الكيانات العربية للحفاظ على ما بقي من عمران بشري وعمراني تمهيدا لإعادة إعمار البشر والحجر... للمِّ الشمل العربي ودعم قضية فلسطين، كل حسب قدرته، بدل الإحتشاد التدميري والسلبي باتجاه الإجهاز على ما تبقى من مقومات الإستمرار والحياة.
فائض القوة الإسرائيلي لن يسمح بإنتاج تسوية داخلية في المنطقة دون أن يكون له حصة... الشريك الإستراتيجي المضارب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها