خاص مجلة "القدس" العدد 326 بقلم: صقر أبو فخر
يُحيي الفلسطينيون، كعادتهم في كل سنة ، ذكرى نكبة 1948؛ هذه النكبة التي ما برحت حاضرة في صميم وجودهم وأفئدتهم. وفي ذكرى النكبة ، يُستعاد الماضي بطريقةٍ توحي بأن لا شيء تغير منذ ثمانية وستين عاماً ، فيجري الكلام على الاستعمار البريطاني والصهيونية ، ثم على حق العودة ، كأننا ما زلنا في سنة 1949. وفي ذكرى النكبة عام 2016 ، تكرّرت الطقوس ذاتها والكلمات ذاتها والعبارات ذاتها، والاحتفالات ذاتها ، وعمّت هذه الطقوس أراضي 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة ودول الشتات، الأمر الذي يبرهن على الميراث المشترك للفلسطينيين ، أينما كانوا. ويبدو هذا الأمر طبيعياً في حالة الاقتلاع والتهجير والطمس والمحو. فالرد على الاقتلاع والتهجير يكون بالثبات على حق العودة ، والردّ على الطمس والمحو يكون بإحياء الذاكرة القريبة واستعادة الماضي وإعادة الحياة ، ولو بالكلمات ، إلى القرى الفلسطينية التي هُدمت أو جُرفت ، والتي ما عادت موجودةً اليوم إلا في سجلات السلب . لكن ذلك كله بات مكروراً ومستعادًا، وتزداد برودته مع توالي الأيام والسنين.
أما الخطاب السياسي الفلسطيني الموجّه إلى العالم فما زال هو هو، أي خطاب الضحية. وخطاب الضحية ولغة المظلوم لا ينفعان في اختراق الوعي الغربي ، لأن الضحية لدى النخب السياسية و الثقافية الغربية ليست إلا اليهود. ثم أن هذه الضحية ، في المخيال الغربي ، انتصرت مرتين : مرة في سنة 1948 فصار لها وطن ، وخلّصت أوروبا من عبء المسألة اليهودية ، ومرة في سنة 1967، فبرهنت أنها قلعةٌ متقدمةٌ للدفاع عن مصالح ذلك الغرب.
لعل ما يلائم الخطاب السياسي الفلسطيني الموجّه الى العالم أن يتضمن تقديم الفلسطيني لذاته على أنه إنسان متحضر يقاوم العنصرية الصهيونية والاضطهاد القومي ، وأنه يسعى في سبيل الحرية والديمقراطية والمبادئ الانسانية، ثم ، بالدرجة الثانية ، تقديم صورة واقعية عن الفلسطينيين كشعب مضطهد يسعى الى إزالة الاضطهاد الذي حاق به. وخطاب الضحية ، في أي حال خطاب سهل، ويمنح الضحية شعوراً بأنها على حق، وأن هذا الحق غير مشكوك فيه على الاطلاق ؛ وهذا حقيقي بالتأكيد وغير مشكوك فيه البتة ما دام موجهاً الى الآخر فالأمر يحتاج إلى لغة أخرى.
خطاب النكبة نكبة
خطاب النكبة ، في بعض صوره السياسية ، فبذريعة إبقاء قضية فلسطين حية جرى عزل المخيمات عن محيطها البشري ونطاقها المدني وبحجة الاحتجاج على النكبة ، عاش جيل من الناس في إعتام شعوري. فكان القوميون العرب الأوائل قد أخذوا العهد على أنفسهم بعدم الزواج أو الابتسام أو المرح ، ولم يتم النكول عن ذلك العهد الا بعد الوحدة المصرية – السورية في سنة 1958 حين اعتبرها المعاهدون بداية الطريق نحو التحرير والعودة. وخطاب النكبة كان، في بعض وجوهه ، مشلاًّ للتفكير وللمعرفة ومعيقاً للوعي إلى حد ما، وظلت مفرداته تتكرر بلا مراجعة أو تمحيص. فالعرب، بحسب الخطاب اليومي، باعوا فلسطين ، مع أن آلاف العرب تطوّعوا للقتال في فلسطين في سنة 1948، واستشهد منهم المئات. وبعض العرب ، باع آلاف الدونمات من الأرض الفلسطينية ، وهذا صحيح، لكن كثيرين من الفلسطينيين باعوا أرضاً كذلك. والعرب هم الذين خدعوا الفلسطينيين ، حين قالوا لهم "أخرجوا من فلسطين مؤقتاً ، وسنعيدكم إلى دياركم في ما بعد" ، وتبين أن هذا الكلام المرسل كان مجرد شائعةً صدقها الفلسطينيون آنذاك ، وما زال بعضهم يصدّقها حتى اليوم.
الذاكرة الموشومة بالألم، على أهميتها في صنع الجماعة الفلسطينية ، لا تفيد وحدها في التحرّر الوطني، لأن التحرّر الوطني مشروع تحفيزي للنهضة والتقدّم، ولمقاومة الظلم، وللنضال من أجل العدالة. وهو بكل بساطة، مشروع للمستقبل ، وإذا لم يستمد هذا المشروع شِعره وغاياته من الماضي ومن المستقبل معاً ، لا من الماضي وحده ، فلن يقيض له الانتصار، لأن من المحال أن يصل مشروع التحرّر الوطني إلى خواتيمه الزاهية بسلاح العائدين من أفغانستان و البوسنة، أو على أيدي الذاهبين إلى العراق وسورية. والتحرر الوطني تأسيس ثم بناء وليس تخريب ما كان بُني مثلما يجري لمنظمة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال. ومعضلة منظمة التحرير أنها كانت تاريخياً وقانونياً وواقعياً ممثلة للشعب الفلسطيني منذ تأسيسها في سنة 1964، أو على الأقل منذ انضمام المنظمات الفدائية إليها وتسلم الشهيد ياسر عرفات قيادتها في سنة 1969، لكنها اليوم، من الناحية الواقعية انكمشت وما عادت ممثلة للجميع، خصوصاً للتيار الاسلامي الذي ساهم في تخليع أبوابها. وانكماش قضية فلسطين راجع، في بعض اسبابه، إلى الانشطار السياسي الذي دشنه الانقلاب الحمساوي في 14/6/2007، وإلى ضمور موقع منظمة التحرير الفلسطينية في السياسات العربية بعد سقوط آخر ملامح النظام السياسي العربي مع ضرب العراق وفرض الحصار عليه في سنة 1991.
مفارقة عجيبة
تمكن الفلسطينيون بعد نكبة 1948، وعلى الرغم من الشتات والذهول والانكسار وفقدان الأرض والمجتمع ، من بناء مؤسسات سياسية كان لها شأن مهم جداً في المرحلة اللاحقة، مثل الروابط الطالبية ( 1952) وحركة القوميين العرب (1956) وحركة فتح (1957) ثم الاتحاد العام لطلبة فلسطين (1959). أما اليوم ، وعلى الرغم من البلايا والمصائب التي ما فتئت تحل على الفلسطينيين في كل مكان ، فإن الخبرات الفلسطينية في السياسة والاعلام والتواصل كبيرة جداً ، والتجارب المرة صقلت الكثير من الأفكار المتقادمة وجعلت الاهداف اكثر وضوحاً واقل رومانسية. ومع ذلك فلا شيء جديداً يتأسس ، ولا بنيان يعلو . وحتى ما كان مبنياً يتشرذم وتتناقص فاعليته ويذوي.
لماذا تمكن الفلسطينيون ، إذاً من تأسيس منظمات سياسية وثقافية وفصائل عسكرية قبل نحو ستين عاماً ، ولا يستطيعون اليوم تأسيس اتحاد شعبي واحد يحاكي تجربة الإتحاد العام لطلبة فلسطين أو الإتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين؟ وفي معرض الإجابة يمكن القول إن قضية فلسطين كانت قضية العرب الأولى حقاً ، لكنها صارت اليوم إحدى قضايا العرب فحسب. وكان يُقال دوماً إن " فلسطين قضية عربية " و" فلسطين هي القضية المركزية للعرب " ، وهي " جوهر القضية العربية ". وتلك الشعارات كانت بدهية حتى ستينات القرن العشرين، لأن القضية العربية ، في جوهرها ، هي الاسم الآخر لمشروع التحرر القومي من الاستعمار ، ولمشروع الوحدة القومية ، ولمشروع النهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية. وقد اكتسبت القضية ، العربية تعريفها السياسي من صدامها مع المشروع الاستعماري الغربي الذي تجلى عياناً على أرض فلسطين في صورة دولة اسرائيل. لهذا كانت اسرائيل ، علاوة على مشروعها الصهيوني التأسيسي الذي خلّص أوروبا من المشكلة اليهودية ، خط الدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة العربية ، وبندقية الحراسة للتجزئة في المشرق العربي بحسب اتفاقيتي سايكس – بيكو عام 1916 وسان ريمو 1920. وبهذا المعنى ، فإن اسرائيل هي جزء حيوي من المنظومة الأمنية والاستراتيجية للغرب. والمعادلة البسيطة كانت دائماً هكذا: اسرائيل قوية تعني عرب ضعفاء. عرب أقوياء تعني اسرائيل محاصرة. ولو أن قضية فلسطين ، وهي جوهر القضية العربية ، هي مشكلة شعب مهجر من أرضه فحسب لربما كان الحل المنطقي إعادة قسم قليل من هاذ الشعب الى دياره ، وتأمين حياة القسم الآخر في البلدان العربية. فما الضير ، من وجهة نظر الغرب والاسرائيليين وبعض العرب ، في أن يعيش الفلسطينيون ، وهم عرب ، في الأرض العربية ؟ ولو أن الصراع مع اسرائيل مجرد صراع على الأرض وحدها ، أي أنه صراع جغرافي محض ، فما المشكلة لو منحنا جزءاً من أرض فلسطين لليهود الذين هربوا من ذبائح أوروبا ؟ لكن قضية فلسطين ليست قضية مجرد شعب وكفى، وليست منازعة على الأرض فقط ، وإنما هي مصير المشرق العربي بأسره في مواجهة المسألة اليهودية والاستعمار الصهيوني لفلسطين.
وفي خضم الأهوال التي تحدق بالفلسطينيين من كل صوب ، وفي معمعان التنازع الفلسطيني – الفلسطيني حتى على البدهيات ، صارت الحال ترقيعاً وتقطيعاً كما قال الشاعرابراهيم بن أدهم :
نرقِّع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقِّعُ
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها