خاص مجلة القدس العدد 325 نيسان 2016
إن اعتقال الطفلة ديما الواوي لمدة شهرين ونصف في معتقل هشارون، والإفراج عنها بتاريخ 24/4/2016 كان حدثاً صارخاً في الأوساط الفلسطينية، والقانونية، والإنسانية. كما أنه شغلَ الجمعيات والمؤسسات ومنها منظمة "هيومن رايتس ووتش" ومؤسسة بتسليم الإسرائيلية وغيرهما. وقد تابعَت هذه الجهات القانونية عملية الاعتقال، والمعاملة داخل المعتقل، وأساليب التحقيق. الأهالي حاولوا منذ البداية متابعة قضية ابنتهم ابنة الثانية عشرة، وهي التي أصبحت في قبضة جنود الاحتلال. لأول مرة في حياتها لا تنام في بيتها، لأول مرة تحيط بها مجموعة جنود غرباء أصحاب وجوهٍ كالحة، لأول مرة تصرخ وتبكي، وتستجدي الأمَّ والأب، ولكن ليس من مجيب، لأول مرة تسمع الشتائم باللغة العربية، ولكن بلسان عبري، لأول مرة يغلبها النعاس ولكن ممنوعٌ عليها النوم، فالأرجل تركلها والأيدي تصفعها، والرعب يحدق بها، ولا أحد ينقذها أو يحميها، فلا أبٌ يخلَّصُها، ولا أمٌ تحتضنُها، ولا أخٌ قريبٌ يثور لأجلها، ولا قريبٌ يصل إليها، إنها في جوف الزنازين وغُرَف التحقيق، فلا صوتَ إلا صوت السّياط، والبكاء وزعيق الجلّادين.
ولا شك أَنَّ عذاباً مماثلاً عاشته أمها التي لا تعرف النوم وابنتها بتصرُّف شياطين الإنس، وحثالة البشر. فكل ليلة تمضي وكأنها ألف ليلة. وأبٌ واجَهَ سابقاً كل الصعاب ولم تدمعْ له عين، ولكنه اليوم يبكي رجولةً وحرقةً لأنه لا يستطيع الوصول إلى ابنته التي تسأل عنه وهي تحت الشدة، ولا تراه.
تقول مديرة مكتب منظمة "هيومن رايتس ووتش" في (إسرائيل) وفلسطين: "إن قوات الامن الإسرائيلي لجأت بشكل ممنهج لاستجواب الأطفال بدون حضور الآباء ما يعني خرقَ القوانين الدولية والإسرائيلية التي تنص على تدابير حماية خاصة بالأطفال المعتقَلين كعدم اعتقال أو احتجاز الطفل إلا كحلٍّ أخير، واتخاذ احتياطات لضمان عدم إكراهه على الاعتراف بالذنب، كما تطالب اتفاقية حقوق الطفل".
وتقر المنظمة الدولية بعدم التزام إسرائيل بالمعايير الدولية، وتدابير الحماية التي يكفلها القانون بشأن الأطفال المحتجزين، وتصف ذلك بالأمر المقلِق.
ألم تقرأ ما أوردتهُ المنظمة الدولية "هيومن رايتس ووتش" حول الطفل فايز الذي طاردته مجموعة من جنود الاحتلال، وعندما لجأ إلى إحدى المحال التجارية اقتحم الجنود المكان واعتقلوه. ستة جنود يطاردون طفلاً، الطفل يحاول التملُّص من بين أيديهم، وهم يشدون الخناق عليه محاولين شلَّ حركته، وتنجح مجموعة الجنود الأشاوس في السيطرة على طفل فلسطيني، ويقودونه مكبّلاً إلى مركز التوقيف والتحقيق، يشعر الجنود بالنشوة نشوة النصر، لأنهم استطاعوا حماية أمن دولتهم من بطش الطفولة الفلسطينية" أليسَ الأمر مثيراً للتساؤل حول مصير هذا الجيش المرعوب والمذعور؟
الجميع شاهد مجموعة من الجنود وهم يتناوبون على ركله في ساقيه وظهره ورأسه في مشهد عنصري إجرامي همجي. وقد اكتملت الصورة بكل أبعادها وظلالها عندما تجمَّع المارَّة حوله ليكشفوا عن قلوبهم السوداء، وهم يشتمون الطفل، ويصرخون بوجهه، ويسبون أُمّه وأخته باللغة العربية.
وهذا ما شهدناه في لوحة الطفولة البريئة للفلسطيني أحمد مناصرة وهو ملقى على الارض، بينما الجنود الصهاينة يتحلّقون حوله يركلونه ويشتمونه، ثم يُنقلُ دُفعةً واحدة إلى المعتقل، والاعتقال، والضرب والتحقيق في محاولة لإعدام الطفولة، وتركيع الآباء والأمهات. ألم يتساءل العالم حول سبب إصرار جنود الاحتلال على اعتقال الطفل وديع مسودة ابن الخمس سنوت في الخليل، فبعد اعتقاله يبدون وكأنهم حصلوا على صيد ثمين متورّط في أعمال ارهابية. هم يتعاطون مع الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة والقدس، وأراضي العام ثمانية وأربعين على أنه شعب إرهابي، وأن الإسرائيليين في هذا الكيان العنصري هم الضحية، لأنهم مهددون حتى من الاطفال الصغار، وأنه ليس امام العالم إلاَّ أن يقف إلى جانبهم يؤيّدهم في ارتكاب الجريمة وتدمير القيم الانسانية كافة.
هذا الكيان الصهيوني هو الذي أعلن تمرده على الشرعية الدولية بعد القرار الدولي الجائر الذي اعترف بوجودهم على أرضٍ ليست ارضهم، أخذوا من الامم المتحدة ما يريدون على حساب جماجم وجثث وضحايا دير ياسين، والطنطورة، والصفصاف، وصلحا، ثم ركلوا بأقدامهم المؤسسات الدولية، وقرارات الشرعية الدولية، وحقوق الاطفال، وداسوا على حقوق المدنيين، ونكَّلوا بالاسرى والجرحى، ودمّروا البيوت على أصحابها في قطاع غزة النازف والجائع والمتألّم.
لقد امتلأوا حقداً، وإصراراً على الانتقام، وتلويع أَهالي الشهداء، إنهم تتار هذا العصر، وإنهم أفضل من يجسِّد النازية بكل شرورها، إنهم أصحاب هذه المدرسة، وهي تولد اليوم من جديد على أيديهم أشد فتكاً، وظلماً، وإجراماً. يدَّعون أن النازية الألمانية الهتلرية أحرقتهم، لكنَّ النازية العبرية الصهيونية تحرق اليوم محمد أبو خضير حيّاً، ثم تحرق أسرة دوابشة بكاملها أحياء، فهل تحتاج إلى دلائل اكثر من حالة الرعب والقهر والتنكيل التي يبشرنا بها الكنيست اليوم، أربعماية وخمسون طفلاً في المعتقلات لا قوانين تحميهم، ولا منظمات دولية تتمكن من الاطلاع على معاناتهم، وظروف اعتقالهم، واساليب التحقيق معهم. هم أطفال في قبضة نتنياهو العنصرية. هم أطفال يدفعون ثمن انتمائهم لأرضهم ووطنهم، يدفعون ثمن تمسكهم بالحرية والاستقلال، ورفض الاحتلال، إنهم محكومٌ عليهم بالعذاب والتعذيب، لأنهم مُشبَعون بقيَم الرجولة والدفاع عن الكرامة، وحملِ راية الشهداء، وتجسيد معاني الصمود، ورفض الاستسلام والخنوع، وكان الثمن مئات الشهداء من الاطفال تقطّعت أوصالهم تحت ركام الأبنية المدمَّرة جواً في قطاع غزة، غزة الصمود والبطولة.
ما جرى يحملنا على أن نتساءَل حول ماهية هذا الكيان الصهيوني الغاصب الذي يعيش أزمةً نفسية وأمنية وأخلاقية حادة، ولا يجد مقراً للانتقام إلاَّ من الأطفال، اطفال فلسطين. إنه يدرك تمام الادراك أن شعبًا لديه أطفال كهؤلاء فهو منتصرٌ بالتأكيد، نتنياهو يتعاطي مع أطفالنا كأنهم رجالٌ، وأنَّ خطرهم قائم وداهم، وأنهم رغم الجراح، والآلام، والعذابات فهم أسياد الموقف. فمن حق نتياهو الممتلئ عنصريةً ونازيةً وحقداً أن يشعر بالخوف والرعب. أمام قصة ديما الواوي التي فاقت كل التصورات ألم تستيقظ ضمائر الأمة؟! واذا كانت قد استيقظت فماذا فعلت؟! وهل أصبح أطفالنا في قبضة العصابات يُعذَّبون ويصرخون ولكنَّ الأمةَ في سُبات فوا معتصماه!!
فلسطين تغلي، ويجب أن تغلي، وإلاَّ فإننا نفقد الوفاء والحمية. يجب أن نقول كلمتنا وفاءً لأطفالنا، ونسائنا، وأن نقولها في اللحظة المناسبة حتى تكون مرعبةً لمن استهان بأرواحنا، وطفولتنا، وكرامتنا وقبل فوات الأوان.
أليس ضرورياً أن نُثْبتَ لمن يستقوي على أطفالنا أمام أعيننا بأننا أقوى من عنصريتهم، وأننا نستحق الحياة، لأننا من أحفاد عزالدين القسّام، وعبد القادر الحسيني، وياسر عرفات، ومحمود درويش؟!!
ألا تستحق النسوة الأسيرات، والقاصرات، وهنَّ الحرائر من سلالة دلال المغربي، وفاطمة البرناوي، وآيات الأخرس، ألا يجدر بنا ومن أجل كرامتهن أن تخرجَ الضفةُ والقطاعُ والجليل والمثلث والنقب عن بكرة أبيها إلى الشوارع، إلى الساحات على مقربة من حواجز الاحتلال في يوم معيَّن وساعة معينة، وأن نرفع لافتة واحدة وهي: "نساؤنا..أطفالنا.. أسرانا في المعتقلات عنوانُ كرامتنا..لن ننتظر كثيراً.. نحن شعبُ الجبّارين". لنفْعلها ولو مرةً واحدة، في موقف فلسطيني موحَّد، وفي رسالة واضحة إلى العالم كل العالم بأننا شعبٌ يرفضُ المذلَّة ولا يركع إلاَّ لله.
وهذا أضعف الايمان لتأجيج العنفوان. سامحينا يا ديما..لقد كنتِ وحيدةً في مواجهة حثالة البشر. لكننا لن نبقى كما كنا...
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها