تعاني السياسة الفلسطينية حزمة من العقد المترابطة والمتشابكة ، والتي هي اشبه بعقدة غورديان القائد اليوناني ، دلالة على كثرة العقد وصعوبة فك إحداها دون الأخرى ،فالحالة السياسية الفلسطينية لا تنطبق عليها القواعد المتعارف عليها في فهم وتفسير حزمة الازمات التي يعاني منها النظام السياسي الفلسطيني، فالنظام السياسي احد الآليات والخيارات امام الفلسطينيين لإنهاء الإحتلال وقيام الدولة.
ولعل أحد أهم الاشكاليات الفلسطينية حالة الإحتلال الذي يفرض نفسه على كل التطورات والفعاليات السياسية ، والاساس أن هناك علاقة بين ماهية النظام السياسي وحالة الدولة القائمة ، والاولوية تكون لقيام الدولة ، ثم التوافق على قيام النظام السياسي ،إلا في الحالة الفلسطينية فقيام النظام السياسي في صورته الأولى كينونة منظمة التحرير ثم السلطة الفلسطينية بمؤسساتها التقليدية، وما ترتب على ذلك من إشكالية العلاقة بين منظمة التحرير كمرجعية سياسية عليا، والصلاحيات التي تمارسها مؤسسات السلطة على الارض، وإشكالية العلاقة بين سلطة الرئيس المنتخب ورئاسة المنظمة ، كل هذه الإشكاليات أفرزت حزمة من الازمات الحلزونية التي يصعب التعامل معها برؤية ومنهاج أحادي.
وهذه الازمات بعضها داخلي ، وبعضها خارجي ، وهنا الإشكالية الكبرى والمتمثلة في عدم قدرة النظام السياسي الفلسطيني على مواجهة وإحتواء التغيرات في البيئة الاقليمية والدولية التي تؤثر بشكل اكبر على ميكانيزمات ومخرجات النظام السياسي الفلسطيني ، وهذه العلاقة تحتاج منا إلى مقالة أخرى . فقط هنا أركز على الأزمات الداخلية وتداعياتها على مستقبل السياسة الفلسطينية .
بإختصار النظام السياسي الفلسطيني يعاني أزمة بنيوية شاملة ومركبة وممتده، تتراوح بضعف البنية المؤسساتية وغلبة الظاهرة الشخصانية الفردانية وهي ظاهرة متجذرة تاريخيا. في البداية أخذت شكل الشخصانية العائلية الفردانية ، ثم الفردانية الحزبية، وظاهرة الشيخوخة السياسية. وما زالت هذه الظاهرة طاغية في الثقافة السياسية الفلسطينية ، ويعبر عنها بالثقافة الابوية ، وإختزال السلطة في يد شخص واحد. واشكالية غياب الشرعية السياسية التمثيلية.فلم تجر الإنتخابات للمجلس الوطني منذ أكثر من ربع قرن، وعلى مستوى المجلس التشريعي لأكثر من عشر سنوات، والشيء نفسه على مستوى الرئاسة ، وهو ما يعني تباعد فجوة التواصل بين الأجيال ، وتداول السلطة ودورانها بين النخب المتعددة.
وتمتد الظاهرة ذاتها على مستوى التنظيمات السياسية الفلسطينية ، والإتحادات والنقابات المهنية .
ومن الأزمات التي تفقد النظام السياسي القدرة على الإستقلالية في القرار أزمة القدرة الإستخراجية ،والمقصود بها قدرة النظام على إستخراج موارده الإستقلالية الخاصة به، وهنا من يقول أن الإحتلال يمنع ذلك، وإذا كان هذا الرأي صحيحا فالمسألة لها أبعاد اخرى في الإنفاق والترشيد، ومحاربة الفساد، وفي الهدر العام للمال ، وفي غياب الوحدانية في الموارد والإنفاق بسبب الإنقسام الذي زاد من الإنفاق غير العقلاني ، ومن التداعيات السلبية لهذه الازمة الإعتماد بشكل مطلق على المنح والقروض وما تقدمة الدول والمؤسسات الدولية ، مما قد ينعكس على إستقلالية القرار، والحالة ذاتها تمتد للتنظيمات والحركات الفلسطينية كلها التي تعتمد على ما تقدمه لها الدول الأخرى من دعم مالي، مما يرهن قراراتها لمصالح هذه الدول.
ومن الازمات التي يعاني منها النظام السياسي عدم القدرة على التكيف مع التحولات والمستجدات في بيئة النظام داخليا وخارجيا. فعلى المستوى الداخلي لحقت ببيئة النظام الكثير من التحولات والتطورات ، منها على سبيل المثال بروز دور الحركات والقوى الإسلامية كحماس التي فازت في الإنتخابات عام 2006،وكانت النتيجة مزدوجة ان بنية النظام السياسي الفلسطيني لم تستطع إحتواء أو التكيف مع فوز حماس، وإستيعابها، ومما زاد الامور تعقيدا محاولة حماس إستبدال النظام السياسي القائم بنظام آخر ، وكانت النتيجة الحتمية الإنقلاب على النظام نفسه، والإستقلالية بغزة.مما جعلنا أمام نظام سياسي ببنية مزدوجة متناقضه وأحيانا متصارعة.
وينطبق الوضع على بنية منظمة التحرير التي لم تعد قادرة على إستيعاب هذه التطورات المتسارعة .
أما البعد الخارجي لهذه الازمة ان التحولات الإقليمية والدولية كانت أكبر من قدرة النظام الفلسطيني على التكيف معها مما جعل النظام الفلسطيني متغيرا تابعا يرتهن مستقبله وإستمراره بالإرتباط بأحد هذه المحاور الإقليمية والدولية ، مما افقده هويته الفلسطينية.
ومن الأزمات الحادة والمزمنة التي يعاني منها النظام ازمة الرؤية الوطنية التوافقية التي تشكل إطارا ملزما للحراك السياسي الفلسطيني، وعدم التوافق على الخيارات السياسية وتراوحها بين خيار المقاومة والمفاوضات ، وعدم التلاقي في هذه الخيارات، وكان هذا أحد الاسباب لفشل حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بعد فوز حركة "حماس"، فمن ناحية هناك رؤية الرئاسة والتي تمثل الرؤية السياسية لحركة فتح، ورؤية حماس التي عبرت عنها رئاسة الحكومة التي سيطرت عليهـا وهذا كان سببا في التسريع في عملية الإنقسام.
ومن الازمات المرتبطة بهذه الرؤية ما يعرف بالقدرة الرمزية ، والتي تعني ان كل تنظيم له خطابه وثقافته، وشعاراته السياسية ، وكل منها له تعبيراته السياسية التي تصل ليس فقد حد التناقض بل التصادم والإلغاء، ومن مظاهر ذلك العلم، والمسيرات العسكرية ، والمسيرات الشعبية. هذه بعضا من الأزمات التي تقف وراء التراجع الفلسطيني ، والتي تفسر لنا إستمرار الإحتلال الإسرائيلي الذي وجد بيئة فلسطينية خصبة تساعد على ذلك، ويبقى السؤال ما هو المخرج لهذه الازمات؟وهذا يحتاج إلى مقالة أخرى.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها