تعيد الولايات المتحدة انتشارها السياسي بطريقة تختلف جذريًا عما كانت عليه منذ اكثر من خمسين عامًا.
فهي، ومن خلال الاتفاق النووي مع إيران، فتحت ذراعيها لعلاقات بدت حتى أمس قريب شائكة وشبه مستعصية على القبول- ولو ذهنيًا. وذهب الرئيس الأميركي أبعد، من خلال زيارته إلى كوبا وفتح عهداً جديداً من علاقات قطعت منذ خمس وخمسين عامًا، مرفقة بحصار عسكري واقتصادي لا مثيل له في التاريخ بين الدول. مقابل ذلك ذهبت الولايات المتحدة إلى انتقاد حلفائها بقسوة، خاصة المملكة العربية السعودية، متهمة الأخيرة بمحاولة جرَ الإدارة الأميركية إلى حرب طائفية في منطقة الشرق الأوسط، وبأن المملكة  تسهم في رعاية التطرف من خلال المناهج الدينية التي تعتمدها... وبذات المستوى لم تعط حليفتها تركيا، التي عبّرت قيادتها الأخوانية ذات الطموح  بدولة الخلافة عن غباء منقطع النظير في إدارة علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، الإجابات المرضية حول تدخلها في سوريا أو حول موقفها القاطع في سلبيته تجاه الأكراد في كل من العراق وسوريا.
أللافت هو التهافت نحو إسرائيل، تطبيعًا وعلاقاتٍ طبيعية، خليجية وغير خليجية أيضًا.
إعادة الإنتشار السياسي الأميركي الحالي يعبّر عن استراتيجية "أوباماوية" لطرق التدخل في الصراعات الدولية بطريقة مختلفة عن سابقاتها من العهود الأميركية السالفة. وبذات المستوى يجب الإعتراف بقدرة إدارة أوباما على اعتماد سياسة التبريد وبالتالي تفكيك عبوات سياسية هامة في بلدين لدودين للولايات المتحدة الأميركية: إيران وكوبا. وفوق ذلك علينا الإعتراف بأن سياسة الولايات المتحدة التي تبدو في ظاهرها انكفاءً، إنما هي تعامل بارد مع واقع ساخن، أي أنها لا تتعجّل الحلول التي سوف تنتج عن إفلاس سياسي شامل من قبل المعنيين المباشرين بملفات الحروب الدائرة في منطقتنا. وبتعريف أدق: لن تخسر الولايات المتحدة شيئًا في منطقة تملك كل مفاتيح إدارة أزماتها الحارة والباردة.
حيث تسودُ قناعات قوية بأن إسرائيل هي بوابة أميركا. فتثبيت دعائم أي نظام في المنطقة يمر عبر الرضا الأميركي المدعوم بتزكية إسرائيلية. لذلك فإن الترجمة العربية الراهنة لمسألة تبني الإدارة الأميركية وجهة نظر هذه الدولة أو تلك تقتضي تقديم تنازلات طوعية للدولة العبرية، التي وحسب التقارير والمعلومات الواردة منها، قد أرست قواعد مهمة لعلاقاتها العربية التي باتت تنظر إليها حليفًا مهمًا في وجه التمدد الإيراني الذي يهدد العمق الإستراتيجي العربي.
السؤال الواجب طرحه وبصراحة: إذا كانت إيران تهدد الكيانات العربية، مجتمعة ومتفرقة، هل إسرائيل هي الضامن للأمن العربي... وهل تخلت دولة الإحتلال عن اطماعها العربية التاريخية؟
من جانب آخر: إيران الحليفة الإستراتيجية لروسيا، هي الأخرى في دائرة الإلتباس، إن لم يكن أبعد، حيث العلاقات الروسية- الإسرائيلية تعرف بأنها أعمق وأرسخ من علاقاتها مع الآخرين، لأننا معنيون بلفت النظر إلى كون ثلث المكوّن البشري للكيان الصهيوني من الروس أو دول الإتحاد السوفياتي سابقًا. وبذات القدر لا نستطيع إغفال الإعلان الروسي المباشر عن أن علاقات روسيا بإسرائيل لا تشبه علاقاتها بالدول الأخرى، كونها تقوم على الشراكة- حسب وصف السفير الروسي في تل أبيب.
من هذا المنطلق لا نستطيع تفسير أو ترجمة معنى تضخيم الصراع العربي- الإيراني ووضعه في مقدمة قضايا المنطقة، في حين تمنح الدولة العبرية مرتبة صديق مقرّب على حساب القضية الأهم بالنسبة للعمق الأمني والقومي العربي. ما سبق يدل- وللأسف- على تصحر الحال العربي عبر مسار طوعي لدفع فاتورة صراع عميق لا يمكن إنهاؤه بسنوات او عقود، فيما الثمن لما يحصل حاليًا هو خسارة صافية لا مردود ربحي من ورائها أبدا، بل على العكس، إذ دفع ويدفع وسوف يدفع الإنسان العربي الكلفة من عقله وإرادته وتاريخه وتطوره الإجتماعي- الثقافي. لأن طغيان الحال العصبية على كل ما عداها من حسابات واهتمام بالمستقبل- بالتنمية وببنى تحتية ضامنة للأجيال الآتية، يشكل ضربة قاسمة للتنوّر والإنفتاح والتطوّر الممهّد لمسار حضاري- حداثي، مما يدل على انتهاج مسار انتحاري جماعي للعقل والإرادة العربيين.
هناك أمر غريب وغير مفهوم على صعيد الأولويات وأشكال صدمة الفكر الواجب توجيهها وتصويب اتجاهها. لذلك لا بد من السؤال: السلطة بذاتها- أية سلطة، هل وجودها يشكل البديل عن الهوية، أم أنها محصلة تسوية داخلية في الكيان الواحد مهمتها الحفاظ على البشر والجغرافيا الواقعة تحت مسؤوليتها؟ والسؤال الآخر: أيهما يتقدّم الآخر الحفاظ على الهوية الكيانية أم على السلطة، التي تصادر البعد الحقيقي للهوية الوطنية وتختصرها بقوة وجودها؟
خطيئة النظام العربي الكبرى- بمجمله- هي انتهاج طريق الإستبداد بدل الخضوع لمنطق التسويات الداخلية. لأن الظلم الذي يقع على المواطنين يجعلهم يكفرون بانتماءاتهم ويبحثون عن معان أخرى للإنتماء... والدليل الواضح أمامنا الآن هو التطرف الذي يفترض وجود عدل إلهي ممثل بقيم ورسائل هي بدورها تختصرُ بأشخاص لا يختلفون- بسلوكهم وارتكاباتهم ما ترتكبه النظم الوضعية، بل تتعداها إلى ما هو أبشع وأقسى كثيرًا من ممارسات نظم الإستبداد التقليدية. لذلك وبدل الإلتفاف على المشكلة الأساس التي تواجه النظام القائم، أي البحث الجدي والعميق عن التسوية مع المعني المباشر بالمشكلة- المقصود هنا هو الشعب، يذهب هذا النظام أو ذاك إلى تدوير زوايا العلاقات مع الكيان الصهيوني أو الإدارة الأميركية المنكفئة وغير المهتمة بمصير هذه السلطة أو تلك، كونها ضامنة لمصالها أيا ذهبت رياح الواقع أو تغيرت وجوه السادة الذين يقبضون على زمام السلطة.
 المسلم به حتى الآن أن روسيا لا تطمح بالتمدد على الطريقة السوفياتية، وما تقوم به في سوريا لا يتعدى موقف الدفاع عن النفس فقط. لا تستطيع روسيا أن تعوّم نفسها كقوة تحاكي قوة الولايات المتحدة. فيما لا نستطيع أن ننكر وجودها كقوّة عظمى- وفق المقياس الذي يمنحها درجة أقل كثيرًا عن قوة الولايات المتحدة. وإذا حاولنا تحليل التدخل الروسي في سوريا باعتباره تجاوزًا للحدود الإقليمية لنفوذها فإننا نخطىء. فالتدخل يعني رسم حدود إقتصادية أولا، كونه يتصل بالهيمنة على المخزون الكبير للغاز في البحر المتوسط، وروسيا في هذا المجال تنافس قيادته مع دول أخرى مرعية اميركيا- كقطر. وروسيا تخاف التمدد الإسلاموي العقائدي إلى حديقتها الخلفية في القوقاز، دون أن نغفل العلاقات التاريخية التي تربطها بسوريا كقاعدة عسكرية متقدمة وسوق للسلاح والكثير من السلع الروسية.
وإذا كانت الولايات المتحدة تنتشر سريعًا في البلطيق وعلى تخوم روسيا، فإن الحدود الفعلية لروسيا هي حيث خطت قدم أقرب جندي للمارينز من جغرافيتها. وما تقوم به قيادة بوتين لا يتعدى محاولة الحد من الغزو الأميركي لعقر الدار الروسي لا أكثر، دون أن يغيب عن بالنا أن التدخل في سوريا لا يضر بالولايات المتحدة. فمجرد رضاها عما تقوم به روسيا يلخص مضمون الفائدة التي تجنيها من خلال إنفاق الأخيرة على حرب لا يمكن للآلة العسكرية حسمها، لأنها سياسية بامتياز. الفائدة الأميركية الثانية هي في الإتفاق بين الدولتين على إضعاف قوى التطرف وإطالة أمد الصراع حتى نهاية أهدافه، وبالتالي حسمه على الطريقة المعهودة: تسوية لموازين قوى الصراع وفق خارطة انتشار القوى العالمية... ليس إلا.
   نجحت الحكومة السعودية في استقطاب الدول الإسلامية في إنشاء تحالف لمحاربة الإرهاب. كما نجحت في انتزاع صفة قيادية لها في العالمين العربي والإسلامي، متجاوزة تركيا ذات الرغبة الجامحة في الإستيلاء على موقع القيادة ذاته. مقابل ذلك، لم نر المملكة أو غيرها من الدول المؤثرة في المنطقة تحمل الإرادة والقوة التي تستحقها القضية الفلسطينية، في الوقت الذي يعدم الإحتلال شابات وشباب فلسطين أمام أعين العالم اجمع. كما لم نر الدول التي تجاوبت مع الرغبة السعودية تهتم وتتعامل مع قضية فلسطين بذات المستوى من الغيرة على شعب يتذوق كل يوم مرارة الإحتلال ويصبر على جرائمه.
للأسف وبكل أسى، علينا أن نعترف بأن مكانة فلسطين في هذه المحطة التاريخية الصعبة وصلت أدنى مستوياتها، رغم كل المحاولات التي قامت وتقوم بها قيادة الشعب الفلسطيني. ولن تستقيم الأمور المتعلقة بفلسطين وشعبها إلا مع حلول سلام أهلي وشعبي بين المتحاربين الآن فوق الأرض العربية... وإلى أن يحصل ذلك... لا ندري أية حال ستكون عليها.
الضحية الأكبر في المنطقة هي فلسطين.