العالم يتغير بوتائر سريعة جدًا، قد لا نستطيع بعد وقت قصير أن نفهمه ولا يفهمنا، لم يتغير العالم سياسيًا. بل سبق المتغيرات السياسية، تغيرات بأشكال الاقتصاد والأدوات ولغة التخاطب، وبالكيفية التي يتمركز بها رأس المال، وتغير ليصبح عالمًا يتحكم فيه الذكاء الصناعي. والسؤال المهم هنا: كيف يمكننا أن نؤهل أنفسنا لنحجز لنا مكانًا ومكانة في العالم الجديد؟ والمكانة لا تؤخذ بالسياسة، وحدها. إنما في امتلاك الأدوات التي تجعلنا جزءًا من المستقبل، لأنه بدون تلك الأدوات، سنبقى في الصفوف الخلفية في مسألة التأثير والقدرة على التفاعل والتكيف، لذلك قد نحتاج إلى تشكيل طاقم من الخبراء كي يضع لنا خطة التأهيل لاستخدام الأدوات العصرية.
كاتب المقال هو من الجيل الذي فتح عينيه في ظل نظام القطبين الدولي، الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وتشكل وعيه لعقود في سياق الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وفي سياق المدارس الفكرية العالمية. مدارس الحداثة وما بعد الحداثة، وفي ظل نمو الفكر القومي في الدول العربية، متصارعًا مع الأحزاب اليسارية الماركسية من جهة، وحركات وجماعات الإسلام السياسي من جهة أخرى. وعاش هذا الجيل تجربة انهيار المعسكر الاشتراكي وتفككه في الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا، وسقوط جدار برلين، وإعادة توحيد أوروبا، وانتهاء الحرب الباردة، ثم عاش في ظل نظام القطب الواحد الدولي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى الفور داهم هذا الجيل طروحات المحافظين الجدد. من صراع الحضارات، والاسلاموفوبيا، بالتزامن مع هذه الطروحات جاءت العولمة، بعد ما تحقق من ثورة مذهلة في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وفي المواصلات، في حينها تحول هذا الجيل، الذي أنا منه إلى كتلة أمية بما يتعلق بهذا التطور المفاجئ وبالكاد استطاع التأقلم والتكيف معه. وخلال ذلك ظهرت شركات المايكروسوفت وتكنولوجيا المعلومات التي بدأت تجمع ترليونات الدولارات مما قاد إلى تغيير شكل ومضمون العالم الرأسمالي. واليوم ومع ظهور الذكاء الاصطناعي حسمت هذه الشركات ليس شبه سيطرة على السوق، بل شعرت أن لديها فرصة للسيطرة على العالم. فمن يمتلك عقل العالم يسيطر عليه. فما بالك إذا امتلك عقل رأس المال أيضًا.
من الملاحظ في المنطقة العربية، أن دول الخليج العربي الأكثر تأقلمًا مع المتغيرات. فإلى جانب امتلاكها للثروة، فإن هذه الدول مثلت السوق الأمثل للشركات المشار إليها، مما جعلها تدخل نادي التطور بطريقة أسرع، وهو الأمر الذي انعكس بثقل سياسي ملحوظ لهذه الدول ليس على الساحة الاقليمية وإنما على الساحة الدولية أيضًا، وتحولت دول الخليج إلى مقصد لحل الكثير من الأزمات.
ولتوضيح ذلك، فإن الشركات العابرة للحدود تعاملت مع السوق الخليجي بأنه امتدادها الطبيعي، ومن دون شك أن عددًا من قادة الخليج استغل هذا التطور بشكلٍ ملفت، مما جعلها تلعب هذا الدور. وأتاح لدول الخليج دخول المستقبل الذي يتجه نحوه العالم، أما ما تبقى من دول عربية فمعظمها إما لا يزال منشغلاً بأزماته الداخلية ويعيش قرونًا إلى الوراء، في صراعات طائفية ومذهبية، أو دول تكافح بما لديها من إمكانيات محدودة للحاق بالعالم.
بعد محاولة فهم العالم الجديد، فإن السؤال يدور حول الكيفية التي يمكن مخاطبة هذا العالم بها، وما الذي يريد أن يسمعه منا، وماذا لا يريد دون أن نقدم تنازلات استراتيجية بما يتعلق بالحقوق، وأن نتوجه لهذا العالم بخطاب جديد أكثر براغماتية، فمن الواضح أن العالم الجديد يتحرك في إطار مكافيلية جديدة لا تحتاج أن تبرر الوسيلة أو تزين هذه الوسيلة بمقولات القانون الدولي لتحقق غاياتها. ولكن إلى جانب الخطاب فإن المهم هو امتلاك الأدوات، وأن يتركز الجهد والمال على قلته نحو امتلاك هذه الأدوات وفي مقدمتها استخدام الذكاء الصناعي على نطاق فعال. فاللغة السياسية، وحتى الاقتصادية القديمة للتفاهم والتواصل وتبادل المنافع والمصالح لم تعد مقبولة، هناك لغة جديدة تلائم العالم الجديد علينا اتقانها واستخدامها قبل فوات الأوان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها