غياب مثقفين وساسة إسرائيليين عرفناهم ومعنا العالم بانحيازهم للسلام، يفرض وضع علامة استفهام على مصير تيار السلام في المجتمع الإسرائيلي: الثقافي المتحرر من المفاهيم المتطرفة المنبعثة من تعاليم عنصرية، وكذلك السياسي العقلاني الواقعي، الذين أقروا فعلاً، بحق الشعب الفلسطيني في أرضه الطبيعية والتاريخية، والتقينا معهم يومًا بمنظور رؤية واقعية لمستقبل المنطقة، وضرورة إبداع الوسائل لإنقاذ جوهر الثقافة الإنسانية المهددة بالزوال، بسبب طغيان المفاهيم المتطرفة، المستهترة بحياة الإنسان، ولا تقيم وزنًا لقداسة النفس الإنسانية، فالوقوف في جبهة السلام، يعني إعلان موقف صريح برفض الحرب والإرهاب والصراعات الدموية كحلول، ويعني الارتقاء بمستوى المسؤولية والأمانة في عنق الإنسان، إلى حد ملامسة الحقيقة، المتجسدة أصلاً في حقائق مادية واقعية، الأمر الذي سيعين الجميع على نزع واجتثاث عقلية الاستكبار المتسببة بالمعاناة والمآسي، والموت والدمار، وقطع السُبل أمام تجار السلاح الأكبر في العالم من التكسب على حساب دماء أطفالنا ونسائنا وشبابنا، فالوقوف في جبهة السلام، ليس مجرد هتاف ويافطة وحسب، بل عمل على منهج لترسيخ وتأصيل ثقافة السلام، الذي لن يتحقق ويسود أرض فلسطين المقدسة وما حولها، ما لم يحقق الشعب الفلسطيني استقلاله، وسيادته على أرض دولته، التي باتت جزءًا لا يتجزأ من خريطة العالم الجيوسياسية، وتحظى بمظلة الشرعية الدولية، وحماية القانون الدولي.
إن جبهة السلام التي ننشدها، تتطلب حشد أنصار السلام بحزم، وتشكيل سد مانع لطغيان وبغي وتغول حكومة الصهيونية الدينية والمستوطنين، والتحكم بمركز قيادة المستقبل، فهؤلاء مصممون على تسليم مفاتيح المنطقة لقيادة الإمبراطورية الاستعمارية المعاصرة ومأخوذون بظن الخروج من صراعات وحروب دينية بانتصار، لكنهم في الحقيقة سيكونون أول الخاسرين، على المدى البعيد، وعليهم التذكر دائمًا أن التجارب التاريخية أثبتت استحالة تجذر محتل، أو مستوطن مهما بلغت قوته في أرض تعيش شعوبها دورة الحياة، ولا تفنى فيها إرادة التحرر والاستقلال. وهذا ما يجب على ساسة أحزاب الصهيونية الدينية والمستوطنين الحاكمة الآن في إسرائيل، ومعها اللوبيات اليهودية والصهيونية المساندة لإسرائيل أن تعلمه وتدركه، فمبادئ حركة التحرر الوطنية الفلسطينية إنسانية، وأهدافها مشروعة، لا ينكرها عاقل في هذا العالم، علاوة على شرعيتها غير القابلة للقطع مع روح القانون الدولي، وإقرار العالم بالعمق والامتداد الحضاري للشعب الفلسطيني، وإرثه الشاهد بمقوماته المادية والروحية والدينية على امتداد أرض وطنه فلسطين، فالأرض المقدسة لم تكن كذلك إلا لأن إنسانها قد عمرها وأحياها وطبعها بقدسية أفكاره ومعتقداته ومبادئ السلام والعدل والكرامة. والشعب الفلسطيني مساهم بفعالية في بناء المنطقة الحضارية العربية والمتوسطية، يُناضل لانتزاع حريته وحقوقه الإنسانية الطبيعية والسياسية، والعيش بسلام مع الجميع. لكن ليس بأقل من استقلال وسيادة على حدود دولة فلسطين في الرابع من حزيران من العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
سيدرك اليهود في إسرائيل أن السلام مع الشعب الفلسطيني سبيلهم للخلاص والتحرر من قيود الصهيونية الدينية العنصرية، وحكومة المستوطنين الساعية دائمًا لتخويفهم وإرعابهم بخطاب (الخطر الدائم على الوجود) وأبعد من ذلك، تفتعل كل ما من شأنه إدامة أمد الاحتلال والاستيطان، ورفع وتيرة جرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني، لاستدراج ردود فعل، لإسقاط بعض مصداقية على خطابها، أما استغلال ساسة إسرائيل لخطاب صادر من جماعات ودول يصب في صالح دعايتها، فليس مشروعًا، لإدراكنا أن مصدر الخطابين واحد، رغم تعدد الناطقين.
إن الانتصار لفكر وثقافة وسلوك السلام، تتطلب أولاً التحرر من (الأنا) الشخصية والفئوية والسياسية، وتبني رسالة السلام، والإيمان بمعانيها وأبعادها الحقيقية، وملخصها: إدراك الحقائق، والتسامح، والعدل، والانسجام بصدق وإخلاص مع الآخر، ونعتقد في هذا السياق أن كثيرًا من اليهود محبي السلام في إسرائيل وفي العالم على قناعة تامة، بأن رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية محمود عباس "ابو مازن" قد ناضل منذ عقود، وما زال يناضل من أجل تحقيق سلام، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، سلام يجنبنا الانجراف في تيار صُناع الموت، ومستثمري الفتن والحروب الدينية.
نعتقد بأن أسباب نمو تيار السلام في إسرائيل الآن في ذروة الموضوعية والمنطق، ويمكننا استلهام ذلك مما نشاهده ونسمعه ونقرأه في المظاهرات شبه اليومية في شوارع تل أبيب، فالمعاناة من الحروب ونتائجها، تعتبر الدافع الأكبر للتوجه العقلاني والصدق في العمل لجعله حقيقة قائمة ملموسة، كما أن يهود اسرائيل، بحاجة لوقفة حاسمة في جادة السلام، لعلهم يتحررون -كأشقائهم يهود آخرين- من داء عقلية الاستكبار والتفوق بالاحتلال والاستيطان، ولعلهم يبرؤون أنفسهم من عار جريمة الإبادة الجماعية المنظورة في المحكمة الجنائية الدولية، جريمة ارتكبها جنرالات جيشهم بأوامر من رأس حكومتهم باسمهم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها