أي كلام اليوم على قضية فلسطين سيكون مشوباً بعدم اليقين إلى حد كبير، لأن كل شيء في المنطقة العربية بات سديمياً، أو مثل غبائر الصحاري، أو بلا ملامح جلية فمنذ خمس سنوات وهذه المنطقة تتقلب بقوة كأنها في مجبل إسمنت. ولو سألنا عدداً من المفكرين العرب قبل خمس سنوات عن اتجاهات التطور والتغيير في العالم العربي، لما طابقت إجاباتهم ما يحصل اليوم على الاطلاق. وبهذا المعنى، فإن كلامنا اليوم على قضية فلسطين سيكون احتمالياً بالتأكيد، لأننا لا نعرف البتة متى تتغير الوقائع وتنقلب إلى عكسها. ومع ذلك، لا بد أن نفكر في مآلات هذا الواقع وفي ذيول ما يجري وآثار ذلك في مستقبل الشعب الفلسطيني.

الولايات المتحدة الجديدة
عاشت الأحادية الأميركية، أو القطبية، الأميركية كما يسميها كثير من الباحثين، فترة قصيرة جداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في سنة 1990. لكن هذه الأحادية انتهت إلى غير رجعة كما يبدو لي، وهي لن تتكرر أبداً. فقد فشل التدخل الأميركي المباشر في أفغانستان والعراق فشلاً ذريعاً. فالتدخل في العراق لم يجلب الديمقراطية إلى هذا البلد المهم، بل جلب الطائفية. والتدخل في أفغانستان لم يجلب الاستقرار، بل الفوضى وفي البلدين معاً صارت كلمة "الازدهار" غريبة على التفكير السياسي. ومن المعروف أن الشعار الأميركي المخادع كان يدعو دائماً إلى الاستقرار أولاً، ثم الديمقراطية، وهذا قبل ما يسمى "الربيع العربي". لكن أميركا لم تتشبث طويلاً بهذا الشعار، وراحت تدعو إلى الديمقراطية أولاً، ثم الاستقرار. واليوم لا تستطيع أميركا المفاضلة بين الاستقرار والديمقراطية، لأنها حائرة ومضطربة بعدما فقدت قطبيتها، وبعدما دبت الفوضى واشتعل الارهاب في العالم كله. وأظن أن أصحاب القرار في أميركا سيغلِّبون الاستقرار على الديمقراطية، تماماً كما حدث في مصر، إذ إنهم دعموا انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب محمد مرسي، أي أنهم صاروا مع الاستقرار أولاً وليس مع الديمقراطية أولاً، وهذا يعني العودة إلى الماضي.
مهما يكن الأمر، فقد تدحرجت المنطقة العربية التي تقع فلسطين في قلبها، خلال عشرين سنة فقط، من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي روّجه شمعون بيريز، إلى الشرق الأوسط الكبير الذي دعت إليه كونداليزا رايس، فإلى نظرية الفوضى الخلاقة التي عمل عليها المحافظون الجدد في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، ثم إلى "الربيع العربي" الجاري اليوم بالنار. وكانت نتيجة ذلك كله الانهيار التام في هذه المنطقة، وقد كانت المنطقة العربية شديدة الأهمية للمصالح الكبرى للولايات المتحدة في عصر الحرب الباردة، ولا سيما النفط العربي والأموال العربية، علاوة على اسرائيل وأمنها. لكننا اليوم نشهد نهاية عهد النفط العربي وتضاؤل قيمته الاستراتيجية، وما عاد في الإمكان استخدام الفوائض العربية كما يريد أصحابها، والحرب الباردة انتهت إلى حد كبير، وأمن دولة اسرائيل بات مؤمناً إلى سنوات مقبلة.
في خضم هذه التغيرات المتسارعة أفصح الرئيس باراك أوباما عن آرائه وأفكاره ورؤاه المستقبلية في مجموعة من الحوارات التي أجراها الصحافي اليهودي الاسرائيلي جيفري غولد بيرغ، ونشرها في مجلة "أتلانتيك" في 10/3/2016، وهو ما أطلق عليه "عقيدة أوباما" أو "مبدأ أوباما". وتتضمن هذه العقيدة الأسس التالية:
1. ما عاد الشرق الأوسط منطقة مصالح حيوية لأميركا كما كان قبل عدة عقود. فأميركا لا تستورد من النفط العربي أكثر من 13% من حاجتها، بينها 8% من السعودية.
2. إن الشرق الأوسط منطقة تتفكك باستمرار ومن غير الممكن إصلاحها.
3. الأولوية الأميركية اليوم هي لمنطقة شرق آسيا حيث تمثل الصين المنافس الأكبر للولايات المتحدة الأميركية.
4. الدول العربية الخليجية هي مصدر الأزمات في المنطقة وليس اسرائيل. والسعودية هي المسؤولة عن صعود المنظمات الإسلامية المتطرفة.
5. إن الصعود السريع للدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) يبرهن على أن الشرق الأوسط صار مستنقعاً خطيراً. وهذا المستنقع سيُغرق كل مَن يريد أن يتدخل فيه.
6. القوة الصاعدة التي يمكن التفاهم معها في المنطقة على المصالح المشتركة وعلى مواجهة المشكلات الخطيرة هي إيران.
7. السعودية هي منبع السلفية المقاتلة في العالم، وهي المسؤولة عن التدين الوهابي المتطرف. وعلى السعودية وحلفائها الخليجيين ألا يغامروا في صدام مع إيران، بل عليهم التفاهم مع إيران على المصالح، واقتسام النفوذ معها.
هذه هي باختصار العناصر الأساسية في عقيدة الرئيس أوباما. واستناداً إلى هذه العناصر يمكننا فهم السياسة الخارجية الأميركية وترددها في الحقبة الأخيرة، والنتائج التي ترتبت على تلك الرؤيا. فانحسار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بدأ مع سقوط نظام الرئيس حسني مبارك ونظام الرئيس زين العابدين. ثم جاء سقوط الرئيس معمر القذافي ليفسح في المجال للفوضى كي تنتشر في شمال افريقيا والصحراء الافريقية كلها (مالي ونيجيريا وساحل العاج حتى الصومال). وتبين لأصحاب القرار في أميركا أن الدعم الأميركي للدول الخليجية في وجه إيران أدى، من بين نتائجه، إلى صعود "القاعدة" ومشتقاتها من المجموعات الارهابية. وأن دعم حركة التغيير في العالم العربي أدى، لا إلى الديمقراطية ، بل إلى الفوضى التي سمحت للحركات الإسلامية الإرهابية بالتمدد في كل مكان بما في ذلك دول أوروبا كلها.
شكل سقوط نظام حسني مبارك وظام زين العابدين بن علي رعباً لبعض الحكام العرب وهؤلاء ارتعدوا من فكرة التخلي الأميركي عنهم في ما لو تعرضوا لانتفاضة شعبية في بلادهم. ولعل هذا الرعب كان، من بين أسباب عدة، دافعاً لبعض هؤلاء الحكام لعقد تفاهمات أمنية وسياسية مع اسرائيل، في الوقت الذي تمكن فيه الرئيس أوباما من إنهاء القلق الأميركي، والإسرائيلي أيضاً، من المشروع النووي الإيراني، واطمأن إلى أن إيران لن تسعى لامتلاك سلاح نووي، وإلى أن أمن اسرائيل أصبح في أفضل أحواله.

موقع فلسطين في عقيدة أوباما
ليس من المعروف، على وجه الدقة، هل إن عقيدة أوباما تعبر عن السياسات العليا للدولة الأميركية أم هي مجرد رؤيا صاغها رئيسها قبيل مغادرته البيت الأبيض في مطلع عام 2017؟ وأبعد من ذلك، هل هي مجرد أفكار توصل إلها أوباما بحسب خبرته، أم هي عقيد يتبناها الحزب الديمقراطي الذي سيستمر، على الأرجح، في حكم الولايات المتحدة في السنوات الثماني المقبلة؟ ومهما تكن الإجابة، فثمة قناعة لدى أصحاب القرار في الولايات المتحدة، بين الجمهوريين والديمقراطيين معاً، بأن الفلسطينيين والاسرائيليين غير قادرين على التوصل الى اتفاق سياسي في شأن مستقبل الاراضي المحتلة. وفي هذا السياق راح الزخم الأميركي يتراجع رويداً رويداً حتى اقتصر على المجاملات والعلاقات العامة. وفي هذه الأثناء برهنت إسرائيل، للمرة الألف، ما هو معروف سلفاً وهو أنها لا ترغب، على الاطلاق، في قيام دولة فلسطينية مستقلة، أو في الانسحاب من القدس الشرقية وتفكيك الاستيطان، والتفاوض على مصير اللاجئين والمياه والحدود والسيادة. أي أنها لا تريد أي تسوية.
في هذا الميدان لنتذكر أن المشروع الوطني الفلسطيني، أي الثورة الفلسطينية المعاصرة، نشأ في سياق الحرب الباردة بين معسكر الدول الاشتراكية والدول الغربية، وكان هناك حلف دول عدم الانحياز كخيار ثالث. وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد حوّل مصر إلى قاعدة ثورية مهمة لدعم حركات التحرر الوطني في العالم، وهو الذي أشرف على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964. ثم أن سورية في تلك المرحلة قدمت لحركة فتح ولبقية الفصائل الفلسطينية تسهيلات مهمة جداً في مجال التسليح والتدريب وبناء القواعد العسكرية. وفضلاً عن ذلك كله، كانت المخيمات الفلسطينية في الأردن وسورية ولبنان قواعد أساسية للثورة الفلسطينية. غير أن ذلك كله اندثر اليوم أو تغير فلا حرب باردة ولا منظومة قائمة لدول عدم الانحياز، وانتهت سياسة التضامن العربي  في سنة 1977 جراء زيارة أنو ر السادات إلى القدس وما عادت المخيمات في دول الطوق العربية على ما كانت عليه من التحفز والاندفاع، بل تحولت، جراء التهميش والحروب والتدمير، إلى مأوى. وعلى الرغم من ذلك لم يتسرب اليأس إلى الفلسطينيين؛ فبعد الخروج من بيروت في سنة 1982 اندلعت الانتفاضة الأولى في سنة 1987 التي أعادت الروح إلى النضال الوطني الفلسطيني. وتحولت تلك الانتفاضة إلى حياة جديدة للفلسطينيين، فانخرط فيها الجميع، ولم يبقَ أحد خارجها. واليوم يتململ الشعب الفلسطيني في الداخل ويتحرق للوصول إلى انتفاضة ثالثة في وجه الاحتلال، ففي آب 2015 ظهر شوط جديد في مسيرة المقاومة المستمرة منذ نحو مئة عام. وانبثق جيل جديد من الشبان الفلسطينيين. وهذا الجيل يريد زوال الاحتلال، وما زال يعتبر فلسطين كلها وطنه، ولم يتكيف مع السلام الاسرائيلي، ولم يستطع الاحتلال والقمع أن يطوعا ثوابته الوطنية. أما السلطة الفلسطينية كمؤسسة اعتبارية فهي واقعة بين خيارين: لا تستطيع أن تطلب من شعبها تصعيد كفاحة أو وقفه، وتخشى في الوقت نفسه أن يدفع شعبها أثماناً باهظة، مع العلم أنها باتت مقتنعة، منذ زمن بعيد، بأن التوصل إلى حلول سياسية مع اسرائيل بالتفاوض غير ممكن البتة، ولا بد من مخارج جديدة.

الممكن والمستحيل  
ما هو الممكن إذاً؟ هذا ما يجب التفتيش عنه بالضرورة، أي البحث عن مخرج سياسي. وثمة في هذا الحقل من التفكير خيارات قصيرة المدى مثل طلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وتطوير عمل حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل، وتنظيم مقاومة شعبية ربما تتجه بالتدريج إلى نوع من العصيان المدني الجزئي وربما الشامل في ما لو توافرت الامكانات. ولا يعتقدنَّ أحد أن في الامكان تحقيق انتصار في فلسطين اليوم، والأوضاع العربية على هذا القدر من التهتك. وفي هذا المناخ من الضبابية وعدم اليقين يبدو أن لا خيار أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على الذات، والسعي إلى تطوير أعمال المقاومة البطولية بطريقة محسوبة بحيث لا ندفع أثماناً من دون مردود سياسي فالشعب الفلسطيني لا يعبد الموت، ولا يرغب في تقديم أبنائه قرابين إلا لمشروع تحرير فلسطين.
انتفاضة ثالثة؟ نعم. ولكن لا بد من التقدم بروية وبرؤية سليمة.