القصة حقيقية دون ذكر اسم أو عنوان الضحية
تختطف الأنظار عند مرورها بفعل أناقتها وحضورها المتميز، وتكتسب مودة الجميع لاحترامها لذاتها، صفاء فتاة لاجئة في الخامسة والعشرين، تنتمي لعائلة تسكن في أحد مخيمات الضفة، وتحلم بالعودة لبلدتها "يازور" شرقي مدينة يافا التي هجر أهلها عام 1948.
هي بِكر عائلتها، لكن الجميع ينادي أباها ب"أبو محمود لأننا ببساطة مجتمع شرقي،كبرت ودرست الخدمة الاجتماعية، وفي خطوات سريعة وثابتة ملؤها الاجتهاد والعزم على النجاح، تخرجت صفاء من جامعتها وانطلقت نحو حياتها العملية المبهمة بعزيمة وأمل كبيرين لعلها تحقق ما تبحث عنه لتحسين الحال، وبناء مكانة اجتماعية مرموقة تحقق من خلالها ذاتها ولتشعر بإنسانيتها وتعيش حياتها.
وكباقي أبناء جيلها تحلم صفاء بفارس أحلامها الذي يخطفها من عتم عزوبيتها ويحلق بها عاليا في سماء الأمن والاستقرار لتبني أسرتها، وفي يوم غابر غادرت صفاء عملها كالمعتاد متجهة نحو السوق لشراء اللوازم المنزلية، لمحها شاب واسمعها الكثير من كلام الغزل والود بهدف التقرب منها، محاولا استدراجها للتحدث معه، إلا إنها أضاعت عليه الفرصة وسارت في طريقها. مرت الأيام، والشاب بنفس الموعد وفي كل يوم يواظب على اعتراض طريقها محاولا التحدث معها، إلا أنها لم تعره أي اهتمام، وبعد فشل متكرر عقد العزم على التوجه لبيتها لكي يتقدم منها بطلب الزواج.
لم تتمالك نفسها ولم تكن تتصور بان شابا حاول التحرش بها أكثر من مرة، يجلس الآن مع أبيها طلبا للزواج منها، على اعتبار أن المعاكسة تندرج ضمن أشكال التحرش الجنسي، والتي لا تقل ضرراً أو أهمية عن ملامسة الجسد، لتعمد الشاب مضايقة الفتاة، وإسماعها كلمات قاهرة ومستفزة تعتدي على حريتها وكرامتها.
عرّف الشاب بنفسه: اسمه وائل، أما أهم مواصفاته فهي أنه يحمل الهوية الإسرائيلية، وتفاصيل أخرى أقل أهمية من قبيل أنه في الخامسة والثلاثين من عمره، ويعيش في مدينة يافا ويعمل تاجرا، رحب أبو محمود بالضيف، شارحاً له وضع العائلة ومذكراً أن صفاء لاجئة ولا تمتلك الهوية الإسرائيلية، قاطع وائل الحديث مؤكداً عدم ممانعته العيش في الضفة الغربية. وتبع ذلك اجتماع الوالد مع ابنته موضحا مميزات الشاب، مركزا في حديثه على أنها تخطت سن الخامسة والعشرين وهذا ما يهدد فرصتها بالزواج، ما دفع صفاء للتسليم وإعلان قبولها.
فالسلوكيات والمفاهيم الراسخة في بعض العقول الفلسطينية ترفض منح الفتاة الوقت لتحقيق ذاتها على اعتبار إنها مهددة بخطر" العنوسة" إذا تخطت سن الخامسة والعشرين من دون زواج، وهذا ما يجعلها تضحي وتخاطر في قبول أي فرصة للزواج من أي شخص خوفا من الوقوع في عتم العنوسة المنتظرة التي تهددها ليل نهار، عاد أبو محمود للعريس مطالبا إياه فرصة للتشاور مع العائلة، بعد خروج وائل اجتمعت العائلة وأعلنوا قبول العريس لمواصفاته وأساسها الرفاه المادي. فالمجتمع الفلسطيني وكغيره من المجتمعات العربية كثيرا ما قد يكون رأي العروس(صاحبة الشأن) في بعض الأحيان استشاري والقرار النهائي مرتبط بالعائلة وخاصة الذكور.
أيام قليلة حتى اتصل أبو محمود مع وائل مرحبا به وعائلته في منزله لإتمام النية والاتفاق على التفاصيل، حضر وائل وصحبته مع تغيب والديه معللاً ذلك بطول المسافة التي منعتهم من الحضور، تم عقد القران وعمت الفرحة في قلوب العائلة، وارتسمت البهجة والفرحة على وجه العروسين.
مضت الأيام الأولى بكل ود وألفة، بفعل المعاملة الكريمة والحنان الزائد الذي أغدقه الشاب الوسيم على عروسه، بعد نحو أربعين يوما من الزواج، ولاشتياقها لعائلتها طلبت صفاء من عريسها أن يأخذها لزيارة المخيم،لم يعارض العريس، وبعد وصولهما وتناولهما طعام الغداء، استأذن وائل للخروج لزيارة احد الأصدقاء، وبعد خروجه بقليل اتصل وائل مع زوجته مطالبا إياها بالبقاء عند أهلها إلى أن يعود، وأغلق هاتفه النقال وغادر.
صدمت العروس من فعل زوجها وطال الغياب، أسبوع، أسبوعان، شهر، ولم يتواصل معها، وبعد أن تمكنت من التحدث معه في وقت لاحق، بادر إلى قمعها وشتمها مطالبا إياها بعدم معاودة الاتصال.
خيم الشك والتوتر فوق رؤوس العائلة لجهلهم أسباب هجر العريس لعروسه، وعمت الفوضى وكثر الكلام، وزادت الأقاويل والتأويل وما صاحبها من كذب وافتراء، (ففي هذا المجتمع المرأة هي المسؤولة عن كل علة وخلل.
بعد أن ضاق عليها الحال ذهبت إلى الشرطة الفلسطينية، وهنا كانت الفاجعة، عندما أوضحت لها الشرطة عدم استطاعتها ملاحقة الزوج بصفته مواطنا إسرائيليا، وذلك بسبب الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
وهنا تبرز المصيبة الأمنية التي يعانيها المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية، فرغم الكم الهائل من التنسيقات الأمنية والترتيبات والإجراءات المتعددة التي تجريها السلطة الوطنية مع الجانب الإسرائيلي، إلا أن هذه الترتيبات لا تلتفت لحقوق المواطن الفلسطيني، وتبقى مرهونة فقط بالمواضيع السياسية وملاحقة نشطاء الفصائل، وأي خطر من الممكن أن يهدد أمن واستقرار دولة الاحتلال، عدا ذلك فهو هين.
عادت صفاء لبيتها دامعة العينين نتيجة الصدمة وما رافقها من آلام، ما اجبرها على اللجوء إلى احد المحامين المقدسيين مطالبةً إياه برفع دعوى قضائية على زوجها، وعند استماع المحامي لحديثها نصحها بعدم التوجه للقضاء الإسرائيلي مباشرة، ومحاولة حل الخلاف ودياً، وهذا ما لقي ترحيب عائلة صفاء خوفا من الفضيحة حسب قولهم" فضيحة بالستر أفضل من العلن .
وصل المحامي لعنوان الزوج، وتفاجأ بأنه متزوج وله طفلان، ولاحقاً اتضح أن زيارته للضفة الغربية كانت من باب التغيير والسير وراء نزواته، محللاً لنفسه الارتباط بأي فتاة من اجل معاشرتها لبعض الوقت، طالما أن القانون الفلسطيني لا يمنع تعدد الزوجات ولا يرتبط بالقوانين السارية داخل الخط الأخضر، مستغلاً في ذلك الظرف السياسي والوضع الأمني الواقع على أبناء شعبه في الضفة وغزة. وبعد عناء طويل ومماطلة استمرت لأشهر، أُجبرت صفاء عن إبراء زوجها من كافة حقوقها مقابل نيل حريتها، وبهذا وافق الزوج على طلاقها معززا مكرماً.
ورغم كم المصائب التي لحقت بالضحية صفاء، ما زالت أعين المقربين منها تحملها المسؤولية الكاملة وتنظر لها كفتاه سيئة السمعة والتصرف، عدا عن معاملتها السيئة باعتبارها امرأة مطلقة، ما يوضح ظلم المجتمع بحق المرأة رغم تجرعها كؤوس العذاب التي سقاها إياها زوجها بمعاونة الثقافة السائدة والتشريعات البالية والتخبط القانوني الذي يعانيه الكل الفلسطيني، جراء تطبيق أربعة قوانين مختلفة ما بين غزة والضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948م.
ما يفتح الباب حول الخطر المحدق بالمرأة جراء التعسف القانوني والمجتمعي والشرعي، متسائلاً عن الأسباب والعراقيل الحقيقية التي تحول دون إقرار قانون عصري للأحوال الشخصية، قانون يتناسب مع إنسانية المرأة ودورها ويمكنها من حقوقها واحتياجاتها وأمنها لاتخاذ دورها دون منة من أحد، ليلغي الظلم والقهر والاستعباد الواقع عليها.
صفاء فرد من جماعة، أنثى تجرعت الألم لكنها صبرت، واستمرت بحياتها أملا في التغيير، رغم الألم والصعاب والظلم المجتمعي، وبادرت لتكسر جدار الصمت وتعلن رفضها ذكورية المجتمع المدعم بالشريعة والقانون، وتصنع من نفسها سؤال حائر يحتاج لإجابة منصفة، كم من فتاة تعايش تجربتها وما زالت صامتة؟ وما هي الحلول التي تقي أي فتاه من الوقوع بمأساة مشابهة؟ والى أي نظام سياسي نصبو وما زلنا في طور مرحلة التحرير؟
إلى هنا يبقى السؤال ويبقى الحال كما هو عليه، إلى أن نصل لقناعة حتمية تبرأ المرأة من قناع العار الذي يلصقه بها المجتمع المدعم بالشرع، وتتساوى مع الرجل في البيت والشارع والعمل وأمام القانون ومسيرة الحياة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها