خاص/ مجلة القدس- محمد سعيـد
أسهم الفلسطينيون بدور إعلامي بارز في مراحل مختلفة من أجل خدمة القضية الفلسطينية، واحتلت شخصيات إعلامية من مدارس مختلفة مواقع إعلامية هامة، وكان لهم منابر استثمروها في خدمة هذه القضية. ( كاذاعة القدس/ الاذاعة السورية/ والعراقية/ واللبنانية/ ومركز الأبحاث/ وصوت فلسطين) لصالح المجتمع والرأي العام الفلسطيني، وتوجيه الاهتمام للقضايا السياسية والوطنية والانسانية للشعب الفلسطيني عموماً. وتلقت هذه المنابر والمؤسسات الدعم الكامل في مختلف المراحل الزمنية المواكبة لتطورات المسألة الفلسطينية، منذ مرحلة النكبة الى مأساة الشتات، الى رفع الراية الوطنية وبروز القضية الفلسطينية كحالة نضالية وسياسية والى ما بعد الرحيل عن بيروت. بعد هذه الفترة الزمنية انتقل الجسم الاعلامي بعد ذلك الى اماكن متفرقة كقبرص وتونس، وثم الى أرض الوطن وما تلا ذلك من انقسام جناحي الوطن في الضفة وغزة ووقعت المنابر الاعلامية في أتون المشاكل الفصائلية والصراعات الاعلامية، فبدلاً من أن يكون الإعلام احترافياً وحقيقياً ومهنياً وموضوعياً، وخادماً لقضية الشعب والوطن والمصلحة العليا، غرق الكثير منه في الانحراف، ووقع في لغة التحريض الحزبي والفصائلي كوسيلة من وسائل تدمير الذات بدلاً من توجيه كافة الجهود الى مقارعة العدو. غرق الاعلام في هذه الآفة، وتجلى ذلك مؤخراً في منع انتشار بعض الصحف في الاراضي الفلسطينية تحت سلطة غزة. الا أنه برغم التنوع والآمال التي تدغدغ العقول ما زلنا نعاني من قصور اعلامي شقي ومتضارب، وأصبح الاعلام مطيّة لمآرب تسيء الى الاعلام وأصحابه، ولا تفيد القضية بشيء، وبتنا نخاف من كلمة "نحن"، واستبدلنا الحالة الفلسطينية العادلة بحالة مزوّرة، وفقدنا البوصلة! ولم تعد تكفينا قهوة العالم لترويض خيول عقولنا لنعرف الى أين نحن ذاهبون في هذا الاعلام؟.
ان القليل من التواضع والتسامح يمكن ان يفتح الكثير من الابواب رغم ان الكثيرين يحاولون اغلاقها على طريقة قطاع الطرق! وأصبح الابداع في مجالات مختلفة في نواحي الاعلام خاضعاً لقطعان المنافقين في موجة تبادل للمنافع على حساب القيمة الحقيقية لأي عمل اعلامي يخدم القضية الوطنية، وأصبح التعاطي مع اعلام خلاق مسألة مغيّبة ومهمّشة لصالح التزييف والاعلام العديم القيمة. ومرد ذلك الى انعدام الكفاءة والمعرفة من قبل أناس ضحلين أخذوا مواقع اعلامية لا يستحقونها ما أدى الى تخريب الإعلام، وتغييب أصحاب الكفاءة والدراية عن هذه المواقع الى ان دخلنا في هذه المتاهة.
وبناء عليه يبدو أن إعلام الربيع لم يثمر ربيع الاعلام. وفي هذه الحالة لا بدّ من وقفة تؤدي الى تغيير حقيقي في الشكل والمضمون، فنحن بحاجة الى رموز وطنية حقيقية كالاخوين طوقان، وغسان كنفاني واميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم من الافذاذ الكبار الذين خدموا القضية الفلسطينية اعلامياً بكتاباتهم الوطنية، إذ كانت بؤرة التفكير عندهم هي فلسطين والبوصلة الحقيقية هي هذه، وليس غير ذلك.
لا يكون الاعلام فقط وقفاً على تصريح من هنا أو هناك أو عبر اطلالة يومية على الجمهور من خلال البرامج التلفزيونية، والكتابات اليومية في الجرائد وغيرها، انما الاعلام ان يقدم المرء صاحب القضية مسألته في أروع وأنقى صورة، وهذا ما فعله هؤلاء الرواد من خلال ما قدموا من أعمال تعتبر ريادية في هذا المجال. الآن نحن نعاني من اعلام مبتذل ومنابر تناطح الحيطان تحت شعار "هكذا أريد"، إن السياسات الاعلامية الخالية من الفكر قد فشلت في تحقيق أهدافها وغاياتها التي أنشئت من أجلها، وفشلت في الوصول الى مبتغاها الانساني في التحرر المنشود. لقد أصبح التطرف والبعد عن الاعتدال والواقعية والمهنية والموضوعية يعيق الاعلام من التطور، وأصبح للمتطرف على الأرض له ما يماثله على صعيد الاعلام والفكر؟ ما انعكس سلباً على القضية الفلسطينية وأضحى الاعلام مأجوراً وبوقاً لهذا وذاك بحسب مقتضيات المرحلة، وليس حراً من كل قيد.
لقد نشأ الاعلام الفلسطيني من أجل الموضوع الاسمى النابع من رحم القضية وحرية الانسان، وليس لأهواء من هنا وهناك. فالاعلامي المتنوّر عضو مؤثر وهذا التأثير يمكن أن يضرب بعصاه في مواطن الفوضى والخراب، ويمكن أن يصب الزيت على النيران، اذا لم يكن مهنياً صرفاً وصاحب قضية. فلا اعلام مع الارتهان والتخوين والتحريض، فمن يريد أن يبني " المدينة الفاضلة" الاعلامية، عليه أن يكفّ عن غزو البيوت والعقول بسكاكين العتمة وهدر دماء كثيرة تحت رايات سياسية ودينية باطلة تقشعرّ لها الابدان وتشمئزّ منها النفوس.
ليس الاعلام اكسسوارات رخيصة يتم عرضها بحسب السوق والطلب. ان النقاش حول الاعلام يجب أن لا يذهب بعيداً ولا أن يَعْلق بين أسنان "الحرب على الارهاب"، "وصراع الحضارات"، ولا يتطلب أن يكون تحت هيمنة العقول والنفوس المريضة.
إن أطنان الكتب والجرائد والمجلات ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا لا يمكن أن تؤدي الى ترسيخ اعلام مهني شريف اذا لم تكن صادقة في الاهداف والادوار. أما اذا غفلت عن المصلحة العليا للقضايا الوطنية وهموم المجتمع والقضية، فهذا ليس من المصلحة في شيء. إن السير في هذا الطريق سيؤدي حتماً الى الخراب، والا كيف نفسر أن المتعنترين الذين يمارسون قمع الحريات ويتدخلون في حرف العقول والافكار وتوجيهها الى اهدافهم ومآربهم، وفي نفس الوقت يهدرون الحقوق ويمارسون المفاسد ويتصدرون الصفوف بقوة البطش والسلاح والترهيب، يمكن أن يكونوا رواد إعلام وأصحاب قضية عادلة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها