خاص/ مجلة القدس- أحمد النــداف

يبدو أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، كان الشخصية الوحيدة التي فهمت الدافع وراء هبة الشعب العراقي، في وجه المفسدين والافساد، التي عشعشت في جسم النظام السياسي والاقتصادي حتى القضائي. على الرغم من اختلاف القوى السياسية التقليدية، التي اختلفت على تفسير هذه "الهبة" فمنهم من وصفها في اطار التحرك السياسي المدفوع من قبل بعض المرجعيات، وفهم من فسرها على أنها نتيجة للصراع السياسي القائم والمحتدم بين تلاوين القوى والاحزاب السياسية العراقية.

وهذه "الهبة" التي وعلى ما يبدو  تجاوزت هذا وذاك، بحيث ان ما حصل من تحرك جماهيري، كان بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير".. واضعا تحركه في اطار ما يشبه "ربيع العراق" الحقيقي لتغيير النظام واسقاطه على خلفية تراكم سلسلة طويلة من الازمات التي جعلت من الشعب العراقي فريسة عملية فساد لا مثيل لها في العالم. وهذه الحقيقة أثبتتها تقارير منظمة الشفافية الدولية التي ادرجت العراق ضمن اكثر ست دول فساداً في العالم. وفي خضم الوضع المتراكم لاحت امام رئيس  الحكومة العراقية حيدر العبادي، وللمرة الاولى فرصة لو أحسن اسغلالها جيداً، ونجح في جعلها حجر زاوية في سياسته الاصلاحية، ستضعه في مصاف الرجال التاريخيين وفي مقدمة الصفوف على الرغم من مخاطرتها، باعتباره سيواجه حيتان وعمالقة وجهابذة السياسة والمال والفساد لاستخدام كافة الاسلحة في وجهه بما فيها سلاح الطائفية والمذهبية، ولهذا سارع الرئيس العبادي الى الاحتماء بعباءة رجال الدين والمرجعيات وعلى رأسها السيد علي السيستاني وهو الاكثر تأثيراً ونفوذاً من الناحية الدينية، وكذلك السيد مقتدى الصدر الذي باستطاعته ومن موقفه السياسي والديني وكذلك قدرته على تحريك الشارع العراقي لدعم العبادي أو المسارعين الى دعمه دون اي تحفظ خصوصاً ، وان ما كشفته الارقام والوقائع عن الفساد المعشعش في جسم العراق،دلت على ان مبالغ كبيرة لا يستطيع احد تجاوزها او السكوت عنها ، والتي كشفت ان الهدر في المال العام بلغ خلال سنوات حكم المالكي بلغت أكثر من 800 مليار دولار لا يعرف أحد اين اختفت والى اين دهبت وما زاد في "طين الفساد بلة" اثقال الميزانية العامة بديون كبيرة بلغت بدورها اكثر من 600 مليار دولار. وهذه الارقام المخيفة لم يستطع العبادي تحملها ولا تبريرها أمام الشعب العراقي المنتفض. مما وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستقالة والهروب من المسؤولية، أو الاقدام ومواجهة الجريمة التي ارتكبت بحق العراق دولة وشعباً ومؤسسات، وكانت كلمته المرئية أمام مجلس النواب العراقي الذي استجاب الى اقتراحاته الاصلاحية والتي قال فيها "اهنئ العراقيين واعاهدهم على مواصلة طريق الاصلاح وان كلفني ذلك حياتي".

هذه الاستجابة السريعة التي اعتبرها البعض فرصة فريدة من نوعها، حين شارك في هذه الجلسة التاريخية 297 من اصل 328 نائباً يشكلون المجلس الذي وافق بالاجماع على مقترحات العبادي وهذا أمر لم يألفه المجلس من قبل، لا من حيث السرعة التي لم تتجاوز النصف ساعة من الوقت ولا من حيث اعداد المشاركين والمصوتين بالاجماع.

وهذا الواقع شجع العبادي الى التصويب على رأس الفساد لا الاذناب، وبدأ رحلته في محاربة المفسدين من فوق وهو يرى ان "فساد السمكة يبدأ من الرأس أولاً" ولهذا جاءت اقتراحاته الاصلاحية لتطال الرؤوس الكبيرة بدأ من نواب رئيس الجمهورية "العاطلين من العمل" ونواب رئيس الحكومة وجيش من المدراء العامين الصوريين وهم الذين يشكلون الثقل الاساسي امام أموال الشعب والدولة، باعتبارهم كانوا يستفيدون من "الحصص" دون ان يكلفوا انفسهم عناء العمل، وكان لا يشفع لهم البقاء في مناصبهم سوى التقاسم السياسي وتوزيع الحصص الوظيفية على القوى والاحزاب السياسية.

وقد استفاد الرئيس العبادي من وقوف هيئة القضاء الاعلى الى جانبه، من خلال اصدار ورقة تكميلية لاصلاحاته واستعدادها للتعاون معه وتلقي اي شكوى ضد اي متهم والبحث فيها حتى لو كانت من مجرد مواطنين عاديين. والتي بدأتها باصدار مذكرة استرداد بحق وزير الكهرباء الاسبق "أيهم السامراني" المتهم الأول بقضايا فساد في قضية الكهرباء والمتواري عن الانظار في الولايات المتحدة الأميركية، وهي لن تقف عند هذا الوزير بحيث أنها مقدمة لاستدعاء قائمة طويلة من رجال السياسة في الصف الأول ورجال المال والاعمال المنتفعين...

 

أزمة الكهرباء بداية

 واصدار مذكرة الاسترداد بحق وزير الكهرباء جاءت استجابة لأولى مطالب الشعب العراقي المنتفض، الذي انطلق تحت وطأة أزمة الكهرباء، خصوصاً وانه يعلم جيداً ان بلاده الغنية بالنفط والغاز وهما المواد الاساسية لجعل العراق من المستهجن ان يعاني من أزمة كهرباء، كالتي يشهدها ليتم الكشف ان هذا القطاع لوحده انفق ما يقارب الـ 30 مليار دولار خلال ثماني سنوات من حكم المالكي على هذا القطاع اتضح انها ذهبت بأغلبيتها الى جيوب المستفيدين والفاسدين الحكوميين الذين تعاقبوا على السلطة وتحت عباءة المالكي الذي اتضح انه نفسه هو " شيخ المفسدين وكبيرهم" وبحيث لقبه البعض بحارس مغارة على بابا".

 

أزمة الديون 

وما أثار استغراب الخبراء ابراز حقيقة ان العراق مثقل بالديون، على الرغم من استمرار عمليات تصدير البترول والغاز الطبيعي التي لم تتوقف تحت اي ظرف من الظروف، خصوصاً وان العراق يعتبر من اوائل الدول التي تمتلك مخزوناً هائلاً لا يتوقع ان ينضب الا بعد نفاد البترول من كل العالم بـ 25 عاماً ليبقى العراق وحده القادر على استخراج النفظ والمقدرة بـ 75 عاماً.

ومن خلال مناقشة أرقام الميزانية العراقية العامة للعام 2014 تبين ان العراق انفق 144 مليار دولار لم يستفد منها العراق بل ذهبت في سداد دفعات للديون وهي مرشحة في الاعوام القادمة ان ترتفع الى ارقام اعلى بكثير.

 

العراق يمول ايران وسوريا

وما زاد من طاقة الموازنات العراقية اكتشاف ان مبالغ طائلة تذهب الى كل ايران وسوريا دون ان تسجل في اي كشوفات فقد اتضح ان ايران لوحدها سحبت من المالية العراقية 40 مليار دولار خلال العام 2014 لوحده دون ان يكون هناك اي مسوغ قانوني او اي دريعة او سجلات. وهي عملية تكررت وبمبالغ اكثر خلال السنوات الماضية واثناء حكم المالكي الذي يعتبر رجل ايران الأول في العراق وحليفها الاستراتيجي.

وليس هذا فقط اثبتت الوقائع ان مبالغ اخرى لا تقل عن هذه الارقام ذهبت لدعم النظام السوري الذي يخوض حربه منذ اكثر من اربعة سنوات على التوالي وبنفس الطريقة.

ولعل الاكثر خطورة ما جرى الحديث عنه بأنه حتى "داعش" استفادت من اموال العراق وبارقام خيالية كانت بدايتها من خلال فضيحة "معركةالرمادي" التي ادت الى استيلائها على اسلحة ومعدات كثيرة كانت مشتراة لصالح الجيش العراقي بلغت قيمتها أكثر من 30 مليار دولار. ناهيك عن استيلائها على عدد من آبار البترول الخاص وباسعار متدنية جداً لا يعلم أحد ارقامها ولا كمياتها وان كان الجميع يعلم طريقة تصديرها من خلال عمليات تهريب كبيرة المستفيد الاول منها هو الولايات المتحدة الاميركية نفسها واضافة الى هذه الارقام فقد وضع البرلمان العراقي يده على فضيحة جديدة ومبالغ اضافية كبيرة ضائعة خلال الفترة الواقعة بين عامي 2006 و 2014 يجري البحث عنها دون طائل حتى الآن على الرغم من توقع البعض بان ما خفي هو الاعظم. على اساس ان البحث سيؤدي الى اكتشافات لسرقات كثيرة وكبيرة.

 

مخاطر تواجة العراق

وأمام هذه الوقائع الاقتصادية والتي فتحت الباب على مصراعيه لمحاولات تحويل المعركة في مواجهة الفساد والمفسدين الى معركة سياسية داخلية مدفوعة باستعداد معظم القوى التي تضررت مصالحها السياسية وعلى رأسها حزب "الدعوة" الذي ينتمي اليه رئيس الحكومة ونائب رئيس الجمهورية الاسبق نوري المالكي الى افتعال معارك تحرف الانظار باتجاه اثارة الحساسيات السياسية وتصويرها بأنها معركة ضدها من خلال انتقادها تارة لاجراءات العبادي او تخفيض سقفها او حتى التمهل بتطبيقها تارة اخرى خصوصاً وان هذه القوى فقدت الكثير من المواقع الوظيفية من نواب لرئيس الجمهورية او لنواب رئيس الحكومة وحتى جيش المدراء العامين العاطلين من العمل المرشحة ان تتفاقم ردود فعل مرجعياتهم وقواهم السياسية التي تهدد باستخدام اوراقها السياسية والمذهبية والطائفية ملوحة بذلك الى اللجوء الى تقسيم العراق حفاظاً على مصالحها وايقاف عجلة الاصلاح التي بدأها الرئيس العبادي المدعوم من البرلمان والمرجعيات الدينية وهذا بالضبط ما المح اليه رئيس اركان الجيوش الاميركي متوقعاً تقسيم العراق المنقسم اصلاً تحت الطاولة بفضل السياسة الاميركية وطبقاً لمصالحها الاستراتيجية ورؤيتها للمنطقة العربية التي تقف هي الاخرى على شفير تغييرات وتبدلات وتحولات لن تخدم شعوبها ودولها بالمطلق.