تنبعث بنا هذه الأيام ذكرى خليل الوزير «أبو جهاد» في ذكرى استشهاده الخامسة والعشرين، في مدينة تونس العاصمة من خلال عملية كبيرة نفذتها القوات العسكرية الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، وهي عملية – كما يذكر المتابعون –احتاجت إلى بانوراما واسعة، واستخدم فيها سلاح الجو الإسرائيلي، وسلاح البحرية، ومجموعات خاصة، كما استخدمت فيها تكنولوجيا الاتصالات وغيرها من العناصر الأخرى، ومعروف أن تلك العملية الإرهابية بامتياز، بل هي أكثر نماذج إرهاب الدولة بشاعة، لأن القائد الفتحاوي الوطني الكبير خليل الوزير أبو جهاد كان في ضيافة دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، وكان وجود القيادة الفلسطينية عموماً في تونس هو جزء من اتفاق دولي تم التفاوض عليه بين منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة الأميركية ممثلة بالمبعوث الأميركي فيليب جيب، كان تفاوضاً قاسياً جداً، بالنيران الحية، لخروج قوات منظمة التحرير من لبنان بعد حصار وصمود اسطوري استمر قرابة الثلاثة شهور.
خليل الوزير, الذي بزغ نجمه في العام 1954، بالعبوة الصغيرة التي نفذها وفجرها ضد إحدى المنشآت الإسرائيلية في مستوطنة على الحدود مع قطاع غزة، سرعان ما تكرس كنموذج عالي المستوى من أبطال حركة التحرر العالمية، وقد ظل على امتداد أكثر من ثلث قرن يحظى باهتمام واحترام وإعجاب ليس فقط من الأجيال الفلسطينية التي عرفته، وانخرطت على يديه في النضال الفلسطيني، بل ظل معروفاً ومثار إعجاب وإلهام كبير على مستوى حركة التحرر العالمية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى داخل أوروبا نفسها!!!
كيف ننسى لمناضل فلسطيني أن يحظى بهذا التأثير الكبير، إلى جانب رفيق دربه الكبير الرئيس الخالد ياسر عرفات وبين رفاقه في قيادة فتح والقيادة الفلسطينية عموما؟؟؟
لقد عرف عن خليل الوزير أبو جهاد سمات مميزة في تجربته النضالية والكفاحية الطويلة والثرية، من بين هذه السمات أولاً: سرعة انتقال الفكرة من الدماغ إلى أصابع اليدين، أي سرعة تحويل الفكرة من رؤية مجردة في المطلق إلى واقع عملي محسوس على أرض الواقع!!!
و بما أن حركة فتح قد ولدت في نهاية الخمسينات وسط ديكتاتورية الايديولوجيا، الاخوان المسلمين، الشيوعيين، الأحزاب القومية، كلها كانت في مجدها وفي أوج قوتها، ولم يكن لدى حركة فتح ما تضيفه على مستوى الايدولوجيا سوى أنها طرحت الايدولوجيا الوطنية، التي هي الأقرب لضرورات الشعب الفلسطيني واحتياجاته، وأنها حولت الجهد المهدور في الجدل النظري إلى تفاصيل عملية واقعية على الأرض، يراها الناس ويحسون بها وتتكيف حياتهم على أساسها!!!
و اعتقد أن عبوة خليل الوزير الناسفة الصغيرة جداً، التي فجرها وهو في أول الشباب، طالب في المدرسة الثانوية، مدرسة فلسطين الثانوية في غزة، هي النموذج لسرعة انتقال الفكرة المجردة من الدماغ إلى رؤوس الأصابع!!!
و هي النموذج لحسم الجدل النظري الذي لا ينتهي إلى واقع عملي.
و قد ظلت هذه السمة راسخة في حياة خليل الوزير حتى لحظة استشهاده، وقد أصبح مأثوراً عنه أنه كان يطلب من مساعديه والعاملين تحت قيادته أن يقرروا ما الذي يمكنهم أن يفعلوه وليس الذي يمكنهم الحديث عنه!!!
ثانياً: أن خليل الوزير كانت لديه معرفة يقينية أن طريق الثورة الفلسطينية صعبة جداً، لأن هدفها مهما تم التعبير عنه بأبسط الصيغ هو هدف كبير جداً، ليس في حياة الشعب الفلسطيني فقط بل بالنسبة للأمة من أقصاها إلى أقصاها، حيث لا يوجد ما هو أكبر منه ولا أهم منه، ولذلك فإن خليل الوزير واجه هذه الصعوبة التي تصل إلى حد الاستحالة بفلسفة المحاولة المستمرة، حتى لو تلقينا ضربة قوية، حتى لو تعرضنا إلى انهيار كبير في لحظة ما، فليس أمامنا سوى خيار وحيد وهو استمرار المحاولة بدل أن نغرق في البكاء أو نغرق في التلاوم!!!
فالحل أن نبدأ من جديد، نحاول من جديد، نتخطى اللحظة الخانقة بإنجاز ما على أرض الواقع، وليس الشكوى مهما كانت تلك الشكوى محقة.
و كان خليل الوزير أبو جهاد، يمتلك تلك الموهبة الخارقة في جعل من يقابلهم ويلتقي بهم يقتنعون كم هم مفيدون، وكم هم قادرون على القيام بأشياء لم يكونوا قط يعتقدون أنهم قادرون على القيام بها!!!
و ها قد مضى ربع قرن على استشهاد ذلك القائد الفتحاوي والوطني والعالمي، وما زال الرجل ممتداً فينا، في أجيال عمله معه مباشرة أو التقت به على عجل، أو انبهرت بأدائه البسيط لأعقد الأشياء، كان يطرز رؤاه على نسيج الواقع غرزة غرزه، بجمال ودقة واتقان، وفي بداياته المبكرة، عندما انتقل إلى الجزائر بعد انتصار ثورتها عام 1963، واصر على لقاء الرئيس الجزائري آن ذاك أحمد بن بيلا، واستغرق الأمر بضعة شهور في محاولات يومية دون كلل أو ملل، ونجح بعد ذلك في لقاء الرجل، فقد وجد الرئيس الجزائري نفسه أمام شاب صغير السن وصغير الحجم أيضاً، له ابتسامة طفولية مشرقة، ووجه حميم، وعندما استمع الرئيس إلى ما يقوله هذا الشاب الواقف أمامه، بلغت المفارقة ذروتها، كان ذلك الشاب يتحدث عن أشياء لا تجعل المنطقة تستمر كما هي، ولا تجعل فلسطين تبقى مجرد أغنية حزينة، بل قيامة جديدة، ونجحت رؤية الشاب بكل جمالها وهولها، ولذلك فإن خليل الوزير «أبو جهاد» ممتد فينا بلا نهاية، فالتحية لروحه والخلود لذكراه.