بعد خمسة عقود تقريبا تهب علينا ذاكرة حزيران مثل رياح السموم، وتخسفنا الأسئلة خسفا، ماذا حل بنا؟ كيف احتلنا العدو- أي عدو- من داخلنا, فسكن في عقولنا وقلوبنا وفي نبضنا وجيناتنا، كيف اصبحنا في هذه الأمة نحن جيوش العدو؟ نحمل أسماءنا العربية والاسلامية لكننا في حقيقة الأمر لسنا سوى جيوش العدو، سواء كان اسم هذا العدو اسرائيل أو قوى الاستعمار القديم أو شعوبيات الطائفية والعرقية المريضة تتفشى فينا بلا حدود وبلا جدوى سوى انهيارنا الشامل وانكفائنا الحضاري الى حد أصبحنا فيه النموذج الأسود الذي يضرب به المثل الأسوأ.
في حزيران قبل قرابة خمسة عقود هاجمنا العدو بلحمه ودمه، فاجأنا وحشد لنا ولم نكن نظن أن الأمور يمكن ان تصل الى حد الحشد والحرب والحاق الهزيمة المنكرة، فسقطت القدس وكانت حالة "السندروم" المسيطرة علينا بأن الهدف هو الدلتا والهدف هو دمشق الذي يجلس فيها النظام على أرائك السلطة، ولم نكن نعي بأن قمم جبل الشيخ هي التي تحكم دمشق، وأن هضبة الجولان هي الحامية العسكرية الأصلية لدمشق، وان احتلال الضفة الغربية وعلى رأسها القدس هي جوهر القفزة الصهيونية الثانية حيث كانت نجحت القفزة الأولى عام 1948 في شطب اسم فلسطين على الخارطة السياسية ووضعت بدلا منها اسرائيل.
ولكن رغم هول الهزيمة وصدمة النكبة ورغم الطوابير من دعاة اليأس والشماتة، ورغم اتباع العدو الكثيرين, فان الأمة بصفتها أمة قد صمدت واستعدت وبادرت وقدمت النموذج في الثورة الفلسطينية المعاصرة التي انجزت معجزة الكرامة بعد تسعة شهور فقط، واصبح في امكاننا أن نهمس لبعضنا: ها هو العدو قابل للهزيمة، فكانت حرب الاستنزاف وكانت حرب تشرين عام 73, واكتشف العدو اننا لا نهزم من الخارج بل من الداخل! وانظروا الآن بعد خمسة عقود ماذا يجري؟ مئات الآلاف من جماعات الإسلام السياسي ينشئون جيوشا تشوه ديننا وينبذون انسابنا ويدمرون في حياتنا كل تفاصيل الحياة وها هي جيوش داعش وانصار الشريعة وانصار بيت المقدس والقاعدة وجيش المهدي والحشد الشعبي وبقية الاسماء تجتاح المسافات وتحرق الاخضر واليابس تدمر تراث الماضي لكي تصادر المستقبل، وترسم صورتنا وتؤلب العالم علينا من المغرب العربي الى المشرق العربي ندور في ساحات الفجيعة، ولا شيء سوى زمن من الانهيارات.
ومرة اخرى نتأكد أنه لا خلاص لنا سوى ان نكون مثلما تريدنا السنن الإلهية والتاريخية، ان نكون أمة لنا حق ولنا هدف وأمل ولنا ميراث ولنا دور في حضارة العالم، والحمد لله ان الإشارات الإيجابية كثيرة وأننا يمكن ان نرى مصلحتنا غير ما يراها الآخرون ونكون على حق في ذلك وأن نبادر وننجح في المبادرة، والحمد لله اننا ننظر في أنفسنا بعمق وفي علاقاتنا بروح نقدية والى مسلماتنا بفحص جديد والى خياراتنا بنوع من الاسئلة الشجاعة، حيث الأمم لا تكون ولا تعيش دون قضايا كبرى، ولا احد ينجو بنفسه, ولا احد يستحق الحياة حين يتبرأ من المشاركة الكبرى، ولا أحد يوضع في الميزان دون أن تكون له خيارات حقيقية ونطمح ان تعود الينا ذاكرة حزيران ونحن افضل ونستحق الحياة.