خاص مجلة القدس- بقلم: صقر ابو فخر

واجهت قضية فلسطين جمودًا سياسيًا متماديًا منذ أن توقفت المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في سنة 2010. ومع مطلع سنة 2011 اشتعل العالم العربي بانتفاضات شعبية متلاحقة ما أدى إلى انحسار قضية فلسطين، ولو مؤقتًا، عن جدول أعمال السياسات العربية بعدما تحوّلت الأولويّات إلى القضايا الداخلية الملتهبة. ومع أن اتفاقًا للمصالحة الفلسطينية – الفلسطينية جرى توقيعه في القاهرة في 4/5/2011، إلا أن آثاره العملية لم تظهر على الإطلاق، الأمر الذي زاد قتامة الأحوال الفلسطينية سوادًا على سواد.

في هذه الأثناء كانت إسرائيل تتمادى في احتلال الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وتتوسع في بناء المستوطنات الجديدة، وتوسع نطاق المستوطنات القديمة. وفي المقابل كان الانقسام الفلسطيني، السياسي والجغرافي، يساهم في وهن السلطة الفلسطينية التي ظهرت طوال سنة 2012 كأن لا حول سياسيًا لها ولا قوة، ويساهم أيضًا في الارتياب من السياسات التي اتبعتها "حركة حماس" في قطاع غزة بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر. وقد غذّت بعض مواقف قادة حركة حماس هذا الارتياب، ولا سيما حين ارتفع الكلام على قرب ظهور "دولة الخلافة". ففي خطبة الجمعة في أحد مساجد شمالي قطاع غزة شدد اسماعيل هنية على "تواصل الربيع العربي حتى تسقط جميع أركان الظلم والطغيان، وتستعيد الأمة زمام الأمور (...)، وأن فترة الحكم الجبري بدأت بالزوال وستُفتح صفحات الخلافة الراشدة"1.

في هذه الأحوال جاءت خطوة الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على مكانة الدولة غير العضو** لتمنح الفلسطينيين نصرًا رمزيًا وربما عمليًا، وهذا النصر اقترن بالإخفاق العسكري الإسرائيلي في عملية "عمود السحاب" التي بدأت في 14/11/2012، وانتهت إلى اتّفاق على وقف النار في 21/11/2012.

يمكن القول إن قضية فلسطين ما برحت تدور، منذ انصرام سنة 2011، وطوال سنة 2012، على العناوين التقليدية نفسها وهي: 1- فشل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية وعدم إمكان التوصل إلى أي تسوية؛ 2- المصالحة الوطنية وتأليف حكومة توافقية ثم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية؛ 3- إعادة بناء حركة وطنية فلسطينية على أسس جديدة. وقد أُضيف إلى هذه العناوين الثلاثة عنصران جديدان في سنة 2012 هما: خروج حركة حماس من دمشق جراء تطورات الأوضاع في سورية، وعضوية فلسطين في الأمم المتحدة، علاوة على بعض القضايا التفصيلية مثل استخراج جثمان ياسر عرفات لمعرفة سبب وفاته، وغير ذلك من الموضوعات التي رافقت قضية فلسطين في هذه السنة الحافلة بالأحداث والتغيرات.

 

قصارى القول في هذا الميدان إن التوقعات المحتملة في سنة 2013 تكاد تنحصر في ثلاثة:

1- عودة القيادة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ولكن، هذه المرة، ستكون المفاوضات بين دولة ودولة. وثمة شك كبير في أن تقبل إسرائيل ترتيب طاولة المفاوضات على هذا الأساس.

2- تخلي القيادة الفلسطينية عن المفاوضات المباشرة وتعزيز البدائل الأخرى كوضع قضية فلسطين على جدول أعمال الأمم المتحدة. وهذا الأمر يعني نقل قضية فلسطين من نطاق الصراع العربي – الإسرائيلي إلى التدويل.

 

3- إذا لم يساهم قرار الأمم المتحدة في تحسين مكانة فلسطين في العملية السياسية المتوقفة في الأساس، فإن من شأن ذلك أن يفاقم الصراع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وسيتوقف التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في ضوء التفاهم بين حركة حماس وحركة فتح. ثم إن وقف تدفق المساعدات المالية الأميركية سيفاقم الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في الضفة الغربية، ما يجعل احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة ممكنًا. وربما تتطور الأمور إلى العصيان المدني على قاعدة استعمال القوة لا العنف، وربما تنفلت القدرة على الانضباط نحو استخدام العنف بالفعل إذا ساد شعور عام بأن العنف هو البديل الوحيد المتاح.

 

في خضم هذه التوقعات يُخشى أن تقوم اسرائيل، في مرحلة ما، بترتيب انسحاب منفرد من نحو 50% من مساحة الضفة الغربية، وترسم منفردة خطوط المواقع الجديدة لجيشها، باعتبارها حدودًا شبه نهائية لها. ويُخشى أيضًا أن يتحول قطاع غزة، بالتدريج، إلى "دويلة" مرتبطة بالإخوان المسلمين في مصر، أي مجرد جيب أمني للنظام المصري الجديد. وستضطر حركة حماس إلى إعادة تأكيد سلطتها في قطاع غزة، وإلى فرض سيطرتها على المجموعات القاعدية الموجودة في القطاع، والتي شرعت تطعن في صدقية حركة حماس كحركة مقاوِمة. وهذه التفاعلات، في حال جرت على هذا النحو، من شأنها أن تطيح المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية المنتظرة، وأن تعيق إعادة الالتحام السياسي لجزئي الوطن الفلسطيني.

 

فلسطين في الأمم المتحدة

حين أعلن ياسر عرفات قيام دولة فلسطين في ختام أعمال المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر  في 15/11/1988 (إعلان الاستقلال)، وصف كثيرون ذلك الخطاب بأنه مجرد خطاب تعبوي ورمزي ويفتقر إلى الرؤية الواقعية. وكان ياسر عرفات، آنذاك، يأمل في أن تمكّنه الانتفاضة الأولى من تأسيس دولة للفلسطينيين، وفشل هذا الأمل. وحين هدد ياسر عرفات بأنه سيعلن دولة في أيار/مايو 1999 إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق على هذا الأمر بحسب تفاهمات أوسلو، ثم فَشِل في إعلان تلك الدولة في الموعد المقترح جراء عدم موافقة معظم دول العالم على ذلك، صار كثيرون ينظرون إلى مثل هذه الإعلانات على أنها تهديد بلا معنى، ويتم التخلي عنها في نهاية المطاف. وعلى المنوال نفسه قوبل إعلان الرئيس محمود عباس في 25 أيار/مايو 2011 أنه سيتوجه إلى مجلس الأمن لطلب العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة بالسخرية وبالتخوف معًا. فالولايات المتحدة الأميركية عارضت هذا الإعلان، وأصدر الكونغرس قانونًا يعاقب فيه كل من يؤيد هذا المسعى. وهددت اسرائيل بوقف صرف الأموال العائدة للسلطة الفلسطينية، وبالتضييق عليها اقتصاديًا وأمنيًا. ومع أن مجلس الأمن لم يستجب لهذا المسعى، إلا أن الرئيس محمود عباس عاد في 27/9/2012 ليعلن أنه سيتقدم في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27/11/2012 بطلب لقبول فلسطين دولة غير عضو، وهو يصر على ذلك على الرغم من الاعتراض الأميركي*. وقد حاولت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ثني عدد كبير من الدول عن التصويت لمصلحة الطلب الفلسطيني، إلا أن النتيجة كانت هزيمة دبلوماسية وسياسية لهما، واقترعت مئة وثماني وثلاثون دولة (من أصل 194 دولة) لمصلحة فلسطين**.

إن اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بمكانة فلسطين كدولة غير عضو يعني أن الأمم المتحدة صنفت فلسطين دولة، لكنها دولة تحت الاحتلال. وسيُرتب هذا الأمر، إذا أمكن تطويره والاستفادة من مفاعيله، تحويل صفة إسرائيل نفسها من دولة محتلة إلى دولة غازية، ما يوجب، قانونًا، انسحاب القوات الإسرائيلية في يوم من الأيام من الأراضي الفلسطينية المحتلة كلها، على أن يتم التوصل إلى تسوية لمصالح الطرفين في اتفاقية لاحقة. وسيُرتب هذا الأمر أيضًا، من الناحية القانونية، ان الكلام سيدور، في أي عدوان إسرائيلي محتمل، على حق الدفاع عن النفس، وليس على "مطاردة اسرائيل للإرهابيين" بحسب الحجج الإسرائيلية المعروفة. وفي هذا السياق ثمة تساؤل تبدو الإجابة عنه افتراضية وسديمية، أي غير واضحة المعالم هو: هل ينتهي اتفاق أوسلو ومفاعيله مع إعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال؟ وهل ستنتهي السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس "إعلان المبادئ" وعلى الاتفاقات التي انبثقت منه؟

 

دولة فلسطين المحتلة

إن اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة غير عضو يُشير، في أحد وجوهه، إلى أن المجتمع الدولي ما زال ملتزمًا إيجاد حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال المفاوضات. فالاتّحاد الأوروبي، على سبيل المثال، الذي اعترف بفلسطين دولة غير عضو ربط ذلك بضرورة التوصل إلى اتّفاق سلام يتم الوصول إليه بالمفاوضات. فيكون، في هذه الحال، قد تبنى موقفًا مؤيدًا لإقامة دولة ذات سيادة، وحال، في الوقت نفسه، دون تنفيذ الآثار العملية المترتبة على هذا الموقف. والدول الأوروبية التي صوتت لمصلحة فلسطين في الأمم المتحدة لن تتخذ، بالضرورة، إجراءات مادية ضد إسرائيل كالعقوبات مثلًا. ومع ذلك فإن الأمل بولادة دولة فلسطينية في المستقبل ممكن تمامًا. ولم لا؟ فجنوب السودان صار دولة مستقلة. وأي دولة هي عبارة عن شعب وأرض وسلطة، ثم تحتاج بعد ذلك إلى الاعتراف الدولي. و"النظرية الإنشائية" تقول إن الاعتراف الدولي هو منشئ أي دولة جديدة، وهو الذي يمنحها الشخصية القانونية. وتباشير هذا الأمر لاح في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/2012، أي في اليوم نفسه الذي صدر فيه قرار التقسيم، أي القرار 181 (1947)، والذي حولته الأمم المتحدة إلى يوم عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. غير أن "النظرية الإقرارية" تقول إن الاعتراف الدولي إنما هو إقرار بالأمر الواقع، وهو لا ينشئ دولة، ولكن يكشف عنها. ومهما يكن أمر الجدل القانوني في هذا الشأن، فإن القرار الدولي بتصنيف فلسطين دولة، وحتى لو كانت دولة ناقصة، ربما يؤسس لقيام دولة كاملة العضوية لاحقًا. والأمر منوط بالفلسطينيين أولًا وأخيرًا، وبقدرتهم على إدارة الصراع مع إسرائيل.

 

معركة ما بعد الأمم المتحدة

ما إن حازت فلسطين مكانة الدولة غير العضو حتى بدأت معركة من نوع جديد مع إسرائيل. فقد وصف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنه "خطاب شيطاني يتّسم بالكراهية والحقد على إسرائيل ومليء بالأكاذيب البشعة (...) والطريق إلى السلام يمر بمفاوضات مباشرة من دون شروط مسبقة، لا بقرارات أحادية الجانب في الأمم المتحدة"2. وكان نتنياهو هدّد بأن الدولة الفلسطينية "لن تقوم من دون اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة للشعب اليهودي، ومن دون أن يعلنوا إنهاء الصراع، ومن دون ترتيبات أمنية حقيقية تحمي إسرائيل ومواطنيها"3.

أما وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان فقال: "إن خطاب أبو مازن (في الأمم المتحدة) يدل على أنه عدو لإسرائيل وليست لديه أي إرادة نحو السلام"4. ووصف اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو بأنه "عملية إرهابية نفّذها أبو مازن"5.

لم ترد إسرائيل مباشرة على السلطة الفلسطينية بانتقام مالي أو أمني*، بل بانتقام استيطاني. فاتخذت حكومتها في 1/12/2012 قرارًا بالشروع في بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية في المنطقة E1. وهذه المنطقة عبارة عن ثغرة تمتد  تريد إسرائيل إقفالها بالمستوطنين كي يكتمل مشروع القدس الكبرى التي تصل حدودها إلى غور الأردن شرقًا، وإلى منطقة بيتونيا ورام الله في الشمال الغربي، وإلى بيت لحم في الجنوب، أي ما مساحته 600 كلم2، أو  10% من مساحة الضفة الغربية. والمنطقة E1 تربط القدس بمستعمرة معاليه أدوميم، وتمكن إسرائيل من الوصول الآمن إلى غور الأردن، وتمنع تواصل الأراضي الفلسطينية وترابطها في الضفة الغربية**. ولم يطل الأمر كثيرًا حتى اتخذت "لجنة التنظيم والبناء اللوائية" الإسرائيلية التابعة لوزارة الداخلية في 17/12/2012 قرارًا ببناء ألف وخمسمئة وحدة سكنية جديدة في حي رامات شلومو (تلة سليمان)، وإقامة حي جديد يدعى غفعات هماتوس (تلة الطائرة) شرقي بلدة بيت صفافا الملاصقة للقدس. وهذه الوحدات الاستيطانية هي جزء من مخطط أوسع يشمل بناء نحو خمسين ألف وحدة استيطانية شرق القدس6.

في خضم هذه الحمى الاستيطانية هدد الرئيس محمود عباس من اسطنبول باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية7، مع العلم أن هذه المحكمة ليست إحدى وكالات الأمم المتحدة، بل هي مؤسسة مستقلة انبثقت من معاهدة روما8. وكي تتمكن فلسطين من مقاضاة إسرائيل أمام هذه المحكمة يجب أن تُقبل فلسطين أولًا في هيئة المحكمة. ثم إن اختصاص المحكمة يكاد يكون مقصورًا على جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم انتهاك حقوق الإنسان. وسيجد الفقهاء صعوبة بالغة في التكييف القانوني للإجراءات الإسرائيلية كي تتلاءم مع اختصاص المحكمة.

 

المصالحة الفلسطينية

لأوّل مرّة منذ سنة 2007 يتّحد الفلسطينيون في معمعان العدوان الإسرائيلي على غزة، وفي أجواء البشائر التي أطلقها التصويت على قبول فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة. ففي رام الله تقاطر الناس في مسيرات شبه عفوية للاحتفال بتوقف العدوان الإسرائيلي، وللاحتفاء بالإنجاز المزدوج في نيويورك وغزة معًا. ومن علائم تلك الوحدة أن صور ياسر عرفات ومحمود عباس ارتفعت في غزة، وكتب تحت إحدى صور أبو مازن عبارة "بطل معركة الاستقلال". ونزل الآلاف من أنصار حركة فتح في غزة في مسيرات حاشدة تحدّث في إحداها أمين المجلس الثوري للحركة أمين مقبول. وفي مهرجان شعبي في الخليل تحدّث ممثل عن حركة حماس وآخر عن حركة الجهاد الإسلامي. وما كان ممكنًا أن يحدث ذلك لولا الإنجاز الدبلوماسي في الأمم المتحدة الذي اقترن بالإنجاز العسكري المهم في غزة ضد العدوان الإسرائيلي. وهذا الانتصار المزدوج شكّل خطوة ضرورية للمصالحة الفلسطينية التي ظلت، على الرغم من ذلك، غاية لم يصل إليها الطرفان الرئيسان في الساحة الفلسطينية، أي فتح وحماس.

توقع كثيرون أن يجري الجميع بسرعة نحو المصالحة بعد وقف العدوان على غزة، ولا سيما أن فتح وحماس تعرفان تمامًا أن ثمة انتصارات قد تفضي، في كثير من الأحيان، إلى خسائر باهظة الثمن. ولهذا كان من المتوقع أن يذهب الرئيس محمود عباس وخالد مشعل إلى المصالحة وفي يد كل منهما ورقة رابحة. فالرئيس أبو مازن حقق إنجازًا فائق الأهمية في الأمم المتحدة ربما يؤسس، في ما بعد، لحراك سياسي ودبلوماسي ينقذ السلطة من الركود. وحركة حماس خرجت من العدوان على غزة وقد كسبت مكانة سياسية أفضل، وتخفيفاً للقيود المفروضة على حركة التنقل بين قطاع غزة ومصر. فإذا لم يتمكن الطرفان من تحقيق المصالحة في هذه الأحوال المواتية، فإن من شأن انتصار غزة أن يكرس الانفصال، وان  يؤدي إلى تكريس تبعية قطاع غزة لمصر سياسياً وعقيدياً واقتصادياً وأمنياً. ومن شأن الانتصار في نيويورك أن يكرس بقاء أحوال السلطة الفلسطينية على ما هي عليه، ما يعني ان حتى العودة إلى المفاوضات المباشرة، أو سلوك مسلك سياسي جديد على المستوى الدولي، لن يكون  لهما أي أثر ايجابي؛ فالمكاسب المهمة يبددها دائماً الانقسام السياسي.

مهما تكن الحال، فينبغي عدم المبالغة في تقدير أهمية الانجاز الذي تحقق في الأمم المتحدة أو في غزة، ما دام الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني راسخاً وتابعاً. وما يجعل هذا الانجاز أقل أهمية مما يستحق، وربما يتطاير هباء، هو الإصرار على تجيير انجاز نيويورك إلى حركة فتح وحدها،  وتجيير إنجاز غزة إلى حركة حماس منفردة. وفي هذه الأجواء ارتسم تباين سياسي فور وقف النار في غزة بين شريكي المواجهة، أي حماس وحركة الجهاد  الاسلامي ناجم عن اختلاف موقع كل من الحركتين في الخريطة السياسية الفلسطينية؛ فحركة حماس، في نهاية المطاف، هي السلطة في قطاع غزة، بينما حركة الجهاد الاسلامي خارج هذه السلطة. وحركة حماس أيدت الذهاب إلى الأمم المتحدة، بينما تحفظت حركة الجهاد الاسلامي عن هذه الخطوة، وقطفت حركة حماس ثمار المواجهة في غزة، مع أن حركة الجهاد هي التي بادرت، قبل غيرها، إلى إطلاق صواريخ " فجر – 5"  على المواقع الاسرائيلية. ثم انفرد خالد مشعل بزيارة قطاع غزة من غير أن ينسق خطواته مع حليفه العسكري والسياسي والعقيدي. ثم أن الموقف الجديد والمفاجئ الذي أطلقه خالد مشعل عن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي مرجعية جميع الفلسطينيين، لم يتم التشاور في شأنه مع الجهاد الاسلامي. وقد ترك ذلك كله مرارة مكتومة لدى حركة الجهاد الاسلامي تمثلت في عدم ذهاب الدكتور رمضان عبد الله شلّح إلى غزة في الوقت نفسه مع خالد مشعل. وقد فاجأ خالد مشعل البعض في أول خطاب له فور وصوله إلى غزة  حين قال: "نحن سلطة واحدة، ومرجعيتنا واحدة، ومرجعيتنا هي منظمة التحرير الفلسطينية التي نريدها أن تتوحد وأن تضم الفصائل كافة"9، وأثار ريبة البعض أيضاً في النيات السياسية الكامنة خلف هذا الموقف. وقد عزز هذه الريبة ان موسى أبو مرزوق المرشح لموقع رئاسة المكتب السياسي في حركة حماس بدلاً من خالد مشعل ، لم يستبعد ترشيح خالد مشعل لرئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية 10. وحين بدأ الكلام يدور حول المصالحة العاجلة، راحت حركة حماس تطالب بتأليف حكومة وحدة وطنية أولاً، ثم، بعد ذلك، تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية، علاوة على انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني. وهذا أمر بالغ الصعوبة من الناحية الإجرائية. أما حركة فتح فكانت دائماً ترى ضرورة إجراء الانتخابات أولاً، ثم يذهب الجميع إلى تأليف الحكومة استناداً إلى النتائج التي ستسفر عنها هذه الانتخابات. وهكذا تعطلت المصلحة مجدداً.

كانت المصالحة الفلسطينية، في أحد وجوهها، ترمي إلى إغراء حركتي حماس والجهاد كي يصبحا جزءاً من "الشرعية الفلسطينية"، واستدراجهما بقوة الوقائع السياسية كي ينتقلا من القتال، إلى التفاوض وورقة القتال في اليد. وكانت المصالحة مستحيلة منذ سنة 2007 فصاعداً جراء ما حدث في الانقلاب الدموي الذي نفذته حركة حماس في غزة في 14/6/2007، ولأن حماس والجهاد لم تستجيبا، في ما بعد، لشروط اللجنة الرباعية بنبذ الارهاب. أما اليوم فالمصالحة باتت حيوية للجميع، وصار من الضروري اتفاق الجميع على برنامج  سياسي مشترك، وليس على الأمور الاجرائية مثل الانتخابات أو تأليف الحكومة ... الخ. فالاتفاق على برنامج سياسي واحد يتيح إمكان إعادة تكوين منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تضم الجميع إليها حقاً. ومن دون ذلك فالمصالحات جميعها في مهب الرياح السياسية المتقلبة، والانجازات المهمة ستتطاير مثل غبار الطلع، والانقسام السياسي سيستمر سيد الواقف.

 

نتنياهو والدولة المترابطة

كان مفاجئاً إلى حد ما التصريح الذي أطلقه بنيامين نتنياهو عن أنه يؤيد إقامة دولة فلسطينية مترابطة، واحترامه رغبة الفلسطينيين في دولة مترابطة. وأضاف: "لا أريد أن نحكم الفلسطينيين، لا أريدهم رعايا لإسرائيل أو من مواطنيها. أريد أن تكون لهم دولتهم المستقلة، ولكن منزوعة السلاح"11.

لعل هذا التصريح، بمفرداته الجديدة، كان الأول من نوعه لرئيس وزراء يميني اسرائيلي. ومع ذلك فهو تصريح إنشائي لا يفصح عن حدود هذه الدولة المترابطة المفترضة، ولا عن موقع مدينة القدس في إطار الدولة الفلسطينية، ولا يتطرق إلى مسألة اللاجئين وعودتهم إلى ديارهم الأصلية بحسب منطوق القرار 194 لسنة 1948. وقد دأب كثير من  الساسة الاسرائيليين على إطلاق مثل هذه التصريحات التي لا تقول شيئاً في نهاية المطاف. أما الاستراتيجية الحقيقية لبنيامين نتنياهو ولليمين الاسرائيلي الحاكم فيمكن إيجازها بالتالي:

1- القبول بسلطة فلسطينية في الضفة الغربية من دون أن يكون لها  سلطة فعلية على الأرض.

2- تكون غزة تحت الادارة الأمنية والسياسية لمصر.

3- مفاوضات مباشرة مع السلطة الفلسطينية من غير نتائج جدية.

إن هذه الاستراتيجية تعني، في الحقيقة، استمرار الاحتلال من دون تكلفة. لكن قرار الأمم المتحدة في شأن اكتساب فلسطين مكانة الدولة غير العضو سيطيح هذه الاستراتيجية في ما لو جرى استثمار هذا القرار على النحو الأكمل، أي إنهاء عهد "السلطة" والشروع في إنجاز هيكلية "الدولة".

في هذا الميدان كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الاسرائيلية أن حماس واسرائيل تجريان مفاوضات في مصر في شأن خفض الحصار على قطاع غزة. وقالت إن نتنياهو يريد من هذه المفاوضات تعزيز سلطة حماس في غزة لتحافظ على التهدئة بصورة دائمة، ولدفعها إلى الانخراط أكثر في التحالف السني المعادي لإيران والمؤلف من السعودية ومصر وقطر وتركيا12. ويقول أليكس فيشمان المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت إن المفاوضات كانت قد بدأت قبل عملية عمود السحاب، وهي مفاوضات غير مباشرة، وبوساطة مصرية13.

إن الكشف عن وجود مفاوضات غير مباشرة بين حماس واسرائيل، برعاية مصرية، استدرجت تساؤلات كثيرة عن وجود تفاهمات غير معلنة بين اسرائيل ومصر سبقت إعلان وقف النار في غزة في 21/11/2012، ولا سيما بعدما صارت مصر هي مرجعية اتفاق التهدئة بحسب نص الاتفاق، الأمر الذي يلزمها مكافحة تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة14. وفي هذا السياق لوحظ أن خط الغاز المصري الذي يمر بسيناء إلى اسرائيل جرى تفجيره مرات عدة قبل وصول جماعة الاخوان المسلمين إلى الحكم، ولم يُفجّر بعد وصولهم إلى الحكم ولا حتى مرة واحدة.

 

 انتقال حماس من سورية

بدأت حركة حماس إخلاء مكاتبها في دمشق وضواحيها، ونقل أفراد الصف الأول القيادي إلى خارج سورية منذ مطلع  سنة 2012 بعد الوساطة القطرية التي أنهت القطيعة بين الأردن وحركة حماس. ففي 29/1/2012 التقى الملك عبد الله الثاني خالد مشعل بحضور ولي العهد في دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وكان هذا اللقاء بداية التمهيد لخروج حماس من سورية. غير أن هذه العملية لم تظهر بجلاء إلا في آب/ أغسطس 2012 حين أٌعلن بشكل نهائي خروج حركة حماس من سورية، فيما عدا بعض المكاتب والأفراد الذين أوكلت إليهم متابعة قضايا الارتباط. هذه المكاتب أقفلتها السلطات السورية لاحقاً. وعلى الرغم من قطع العلاقة بين حماس وسورية، إلا ان علاقة حماس بإيران لم تنقطع، بل تعززت بعد عملية "عمود السحاب".

 

مصير مبادرة السلام العربية

دعا رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني في 9/12/2012 إلى إعادة النظر في مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت في سنة 2002. وجاءت دعوته هذه في اجتماع اللجنة الوزارية العربية الخاصة بمبادرة السلام في الدوحة حيث أوضح الأمر على النحو التالي: "قلنا منذ البداية إن مبادرة السلام العربية لن تبقى مطروحة إلى الأبد(...)، ومن الطبيعي والمنطقي بعد هذه السنوات العشر أن نقف وقفة موضوعية لإعادة تقويم عملية السلام"15. لكن الرئيس محمود عباس رد في الاجتماع نفسه بالقول: "لا يجوز، في أي حال من الأحوال، الحديث عن إزاحة المبادرة العربية من على الطاولة. يجب أن تبقى16 . ويبدو ان هذا الموضوع قد اقفل تماماً.

هذه هي محصلة المحطات الأكثر أهمية في مسيرة القضية الفلسطينية خلال سنة 2012؛ هذه السنة التي بدأت راكدة، وانتهت متحركة بقوة، ولا سيما في آخر شهرين منها.