مطلق قيادة سياسية في الدول وحركات التحرر الوطني تضع على رأس جدول أعمالها وبرامجها وأهدافها الاستراتيجية حماية الشعب ومصالحه العليا هنا أو هناك، ولا يمكن الحياد عن ذلك. وفي الصراعات المختلفة مع الأعداء القوميين دائمًا تحسب القيادات معايير النصر والهزيمة وفقًا لتقدير الموقف السياسي والعسكري، وفي حال أدركت أن هذه المعركة أو تلك تهدد مصير الشعب ومستقبله السياسي تتراجع وتنسحب بأقل الخسائر حماية للشعب ولقواتها، وهذا لا يعتبر هزيمة بالمعنى التكتيكي، بل حكمة وشجاعة وجرأة في اتخاذ القرار في الوقت المناسب، والعكس صحيح، بمعنى أن المضي في حرب أو معركة خاسرة هي هزيمة استراتيجية لأي قيادة. لأنها عندئذ تجهل الربط العميق بين الاستراتيجي والتكتيكي، وتكشف عن إفلاس سياسي وعسكري لاتخاذها قرارات عدمية وعنترية غير محسوبة النتائج.
وأستحضر هنا ما قاله أمين عام حزب الله السابق، الشهيد حسن نصرالله في أعقاب حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 عندما اعترف صراحة في خطاب علني، أنه لو كان يعلم ويدرك حجم الخسائر، لما تورط في تلك الحرب. لكن قيادة حركة حماس التي فتحت نيران جهنم على الشعب العربي الفلسطيني بعد "طوفان الأقصى" في 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، لم تفكر بمراجعة حساباتها، ولم تعترف بهول الخسائر الفادحة التي أصابت الشعب كله بما في ذلك خسائرها هي من قياداتها وكوادرها وعناصرها، ليس هذا فحسب، لا بل نكأ خالد مشعل الجراح، وأوغل في الاستهتار بفداحة خسائر وضحايا الشعب غير المسبوقة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي الأميركي، وادعى في خطاب له في الذكرى السنوية الأولى للإبادة الجماعية على الشعب في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بأن ضحايا الشعب خسائر تكتيكية، وعمق جهله بالقول: "أن مشهد الخسارة والدمار لا يدل على الألم، وأن حرب "طوفان الأقصى" أعادت الحياة إلى غزة، وليس الموت، وأضاف: أن الشعب الفلسطيني "لا يهتم للمجازر والمذابح والتهجير والتجويع".
وهنا يبرز أسئلة عديدة: من قال له، أن الشعب لا يتهم بالمجازر والمذابح والتجويع والدمار؟ وهل أحسست بالجوع والألم والموت يومًا؟ وهل فناء الشعب بمعاييرك يعتبر تكتيكيًا؟ وأين هو الاستراتيجي في سياسة حركتك؟ هل يتمثل بحمايتك وحماية أقرانك من قادة حماس، كما ورد في خطتكم المنشورة يوم الاثنين الماضي في 6 كانون الثاني/يناير الحالي؟ ومن قال لك، أن الحياة عادت إلى غزة وليس الموت؟ هل تابعت أهوال الموت والدمار وما آلت له حياة أبناء الشعب فيها؟ أم أنك لا تتابع قناة الفضائح والتهويل الداعمة لخياركم المجنون؟ وهل سمعت ردود الفعل الشعبية من أبناء قطاع غزة على فضيحتك التكتيكية الماجنة؟.
وسأتوقف أمام أهم مفاصل خطة قيادة حماس في الخارج لوقف الحرب المكونة من 14 بندًا بمساعدة دولتي قطر وتركيا للترويج لرؤية استراتيجية، التي نشرها مصدر عربي مطلع يوم الاثنين الماضي، وسأبدأ من النقطة الأخيرة، وجاء فيها "لا بد من أن يبقى الاتفاق سريًّا في حال تمت الموافقة عليه من الأطراف المعنية، وتسريبه يعني تحلل حماس من أي التزام به". وإذا كانت خطة استراتيجية للحركة، لماذا تتخذ الطابع السري؟ ألا يعكس ذلك إدراك قيادة حماس، أنها خطة مشبوهة وتفريطية، وانقلابية على الشعب ومصالحه العليا وممثله الشرعي والوحيد، منظمة التحرير الفلسطينية، كما ورد في بنود الخطة المشؤومة؟.
من البنود الاستراتيجية، أولاً "تسلم حماس قطاع غزة للجنة عربية إسلامية تتكون من قطر وتركيا ودول عربية أخرى"؛ ثانيًا الموافقة على "خروج 195 شخص من قيادات الحركة العسكريين والسياسيين في الصف الأول من القطاع مع عائلاتهم". ثالثًا يتم تسليم سلاح حماس للجنة عربية إسلامية، يكون لها صلاحية تحديد مصيره، وتحافظ حركة حماس على نفسها كفصيل سياسي يناضل بالطرق السياسية لصالح فلسطين وفق النظرية الإسلامية في الحكم، أسوة بهيئة تحرير الشام، التي أعلنت تخليها عن العمل المسلح، وهو ما أعلنت عنه قيادات حماس مباشرة بعد إعلان حكام دمشق الجدد؛ رابعًا تتعهد لجنة الدول الإسلامية والعربية التي ستستلم غزة، بعدم تسليم القطاع لمنظمة التحرير الفلسطينية مستقبلاً، تحت أي ظرف؛ خامسًا الحصول على تعهد خطي أميركي إسرائيلي بضمانة تركية قطرية بعدم ملاحقة قادة حماس في الخارج، والذين سيخرجون من غزة لاحقًا من قبل إسرائيل أو أي دولة حليفة لها سواء بالاعتقال أو الاغتيال؛ سادسًا التعهد بعدم فرض عقوبات مالية على قيادات حماس وأي استثمارات لهم في الخارج؛ سابعًا تشارك حماس في أي عمل لإعادة إعمار غزة، ويكون لشركات المقاولات التركية أو الشركات المملوكة للحركة الأفضلية على أي شركات أخرى؛ ثامًنا تؤكد قيادة حماس أنها لن تنخرط في أي مسار له علاقة بانضمامها لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي مصرة على عدم الاعتراف بها كممثل وحيد للشعب الفلسطيني؛ وطبعًا من بين النقاط الإفراج دون قيد أو شرط عن الرهائن الإسرائيليين، وقطع العلاقة مع إيران، وتشجيع أي مسار سياسي، وتعترف بقرارات الشرعية الدولية، وستلزم عناصرها بعدم القيام بأي عمل عسكري.
هذه هي استراتيجية حركة حماس، التي تتمثل بحماية قياداتها، وعدم الملاحقة، وهو ثمن "طوفان الأقصى" والإبادة الجماعية للشعب والدمار الهائل الذي لم يبق ولم يذر أي ملمح للحياة في قطاع غزة، ومواصلة خيار الانقلاب المشؤوم على الشعب وممثله الشرعي والوحيد "م.ت.ف"، والتكامل بشكل واضح مع الخطة الإسرائيلية الأميركية وحلفائها ومن يدور في فلكهم لتبديد أهداف وثوابت الشعب. فهل يدرك الشعب والقوى السياسية الفلسطينية والعربية معايير حماس الاستراتيجية والتكتيكية، ويتوقفوا عن التعامي عن حقائق فرع جماعة الإخوان المسلمين؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها